فى الإلحاد

مفهومى للإلحاد
ا - تمهيد


- لماذا أنا ملحد ؟


سؤال يسئله كل من يعرف موقفى من الأديان


وقد رأيت هذا السؤال فى مواقع كثير تطالب الملحد ( بالكشف ) عن سر إلحاده
فى هذا الموضوع سأحاول عرض وجهة نظري فى الإلحاد


متحرياً التبسيط فى أغلب الأحوال ، إلا أننى أحب أن اوضح اننى بصدد عرض أسباب عزوفي عن إعتناق الأديان ، فلامنحى لى غير عرض عيوب هذه الأديان ، وهذا ماقد يسوء البعض معرفته.


ومع ذلك لن تجد فى قدحي هذا خروج عن أدب الحوار


ان كلمة ملحد لها وقع خلاب على قلبى ، فبينما يظن البعض أنه يسُبنى بإطلاقها فى وجهى ، إلا أنى أبتسم فخراً وإعتزازاً حين أسمعها تطير الى أذنى ، فحبى لمعنى الكلمة كحب المتدينين اللقب ( عبد ... الله ) أو ( عبد ... المسيح ) .


وأستميحكم عذراً فبحكم دراستى التى كان معظمها بالإنجليزية ، فإننى أمتلك من أدوات اللغة أبسطها ، وأكثرها شيوعاً وتداولا ، لذلك إذا أخطأت فى قواعد الصرف والنحو فبعذري.


وأيضاً بحكم دراستى للهندسة - وهو علم معنى كليةً بالماديات ،ومدى الاستفادة منها بالتطبيق العملى، حتى المنطق يتم إعادة صياغته فيها على شكل معادلات ثم دوائر كهربية هى التى تمكننى من كتابة هذه الكلمات على الحاسوب.


كذلك هو علم يعترف بما يُثبت بالدليل - وحتى وإن لم نراه بأعيننا - فالنموذج الأولى لذرة بوهر تم التسليم بصحته مبدئياً بالدليل الرياضي فقط ، دون أن يتمكن أحد من رؤية ذرة بعينه ، وهو عكس مايظنه المتدينين من أن الماديين لايعترفون إلا بما تتمكن حواسهم من إدراكه وأذكر أن الماديين هم من أكتشفوا القوانين الحديثة ( نيوتن واضع قوانين الجاذبية التى يذكرها المتدين على انها المثال على عدم الرؤية مع التسليم بالوجود ) ، فالعقل هو أهم أدوات الإنسان وهو الفارق الذى جعل تطور الإنسان متمايز عن تطور بقية أسرته من الحيوانات، حتى القردة والحيتان.


ولاحاجة لى بأن أكرر أن ماأكتبه هنا هو وجهة نظر فقط ، ولكنها صواب يحتمل الخطأ


كان لابد من هذا الإستهلال لأضع أمام الجادين فى تفهم الموضوع خلفياته قبل صُلبه




2- العقل والإيمان


كلمة إلحاد تعنى فيما تعنى : الإبتعاد


والمقصود بالإبتعاد هنا الإبتعاد عن الفكر المثالى ، وهو معنى غير دقيق


فإذا كنت فى مصعد كهربائي ( فالإبتعاد ) عن حوادث الطرق غير ذى معنى


أو قد تعنى كلمة إلحاد : الإنكار


ومعظم الملحدين لايقطعون بحتمية خطأ الفكر المثالي عن خالق ، ولكنهم لم يجدوا أدلة تثير أى بارقة تصديق لديهم ، بل على العكس فماتوفر من أدلة لدى الملحد تشير إلى إحتمال عدم وجود كائنات ماوراء الطبيعة هو الإحتمال ( الأقرب ) الى الإثبات من إحتمال وجودها


لكن التعبير الدقيق هو التعبير اللاتينى ( ATHEIST ) ، فالكلمة مركبة من مقطعين ( A ) وهى أداة نفى ، و ( THEIST ) بمعنى مؤمن إذن ( ATHEIST ) تعنى ( غير مؤمن ) وهو المعنى الأدق ، وهو كذلك ماأحب أن أسميه ( تعقل ) ... والسبب لأنه عكس الإيمان


فما هو الإيمان


هو تصديق بموضوع ما بغير دليل كاف ، أو بغير دليل على الإطلاق.
فالمؤمن مطلوب منه أن يؤمن / يصدق بأشياء وشخوص غيبية
مثل الإله ( يهوة - المسيح - الله - بوذا - كرشنا - أوزير - زيوس ......)
وعدو الإله ( عزازيل - الشيطان - إهرمان - ست - .....)
ومساعدو الإله ( الملائكة - الجن - الأنبياء .....)
وكذلك الإيمان / التصديق بأفعالهم
الإله ( الخلق - الرزق - الحساب - تنزيل الشرائع .....)
وعدو الإله ( التحريض - الخلق - محاربة الإله - .....)
مساعدو الإله ( تسجيل مايفعل الإنسان - توزيع الرزق - توصيل الرسائل -....)
والنتيجة أيضاً نعيم أبداً أو جحيم أبدا


كل هذا الكم من الغيبيات عليها دليل واحد فقط
قال الإله لهذا النبي عن طريق ذاك الملاك


الفاعل غيب والفعل غيب والمفعول به غيب
إذن حتى الدليل غيبي
وهو مايتناقض مع التعقل القائم على المناقشة والإستدلال والنظرية والتجربة ، يثبت ثم يعود لينقض


الإيمان راسخ ثابت لايقوم على دليل
                                                والتعقل شكاك متقلب لايهدأ إلا ليشك
وبين قلق العقل ، ورصانة الإيمان تضاد لا يلتقيان وقد يتعارضان
لذلك لم يكن لمثلي أن يُكْذِب أطنان الأدلة
                                                     ليصدق ( قال الله )






3- ضد الأديان


والإلحاد ليس موجه ضد دين بعينه ، بل هو ضد كل الأديان، فبالنسبة الى الملحد كل الأديان تشبه بعضها كالصينيين هذا يانج وذاك يونج فتجد فى وثائقيات قناة ( BBC ) والتى يقدمها أمثال د. ريتشارد دوكنز ود. ساجان موجهة فى الأساس ضد المسيحية، بينما مايقدمه د. جونثان ميلر تتوجه ضد اليهودية . وقد يذكر الإسلام بشكل عارض ولكن متعمد . فى حين تجد المستنيرين العرب امثال د. فرج فودة ود. حامد نصر ابو زيد وفراس سواح يوجهون تركيزهم على الإسلام، وقد يتعرضون لليهودية والمسيحية بشكل عارض ولكنه متعمد أيضاً.
فليس من المعقول وأنا محاط بالمسلمين أن نتجادل حول البوذية ، فمن يسمعنى؟
ويتفق المسلمون مع الملحدون( وهم فى بلادنا العربية مثلي مازال فى خانة الديانة يدون لهم كلمة مسلم ) فى الإقرار ببطلان هذه الأديان، فحول أى شيى فيها نتحدث؟
ولماذا هذا الكيل بمكيالين ، تنقضون الأديان الأخرى بأقذع الألفاظ ، وتتهيج أعصابكم عندما يحدث ذلك لكم، وتظهر البرانويا مختلطة مع نرجسية وعصاب على الوجوه التى تكفهر من قول وجهة نظر !
ماأقوله أن الملحد ليس ضد المتدينين ، لكنه وبالضرورة ضد التدين




4- الصدفة والحتمية والحادث


تبدوا كلمة صدفة كترجمة سيءة لكلمة ( Coincidence ) فهى ايضا من مقطعين ( Co ) وتعنى الإشتراك و( incidence ) تعنى حدث وبالتركيب تعطى معنى ( الحدوث المشترك )


مثال للتوضيح
تذهب الى العمل مبكرا عن موعد الدوام ، فتجد زميلك يدخل فى نفس اللحظة .
هذان حدثان وقعا معاً ، بدون رابط ظاهر بينهما، لكن ربما هناك رابط غير ظاهر ( أنت وزميلك تسعيان الى ترقية جديدة )


اذن متى يكون الاقتران بين حدثين صدفة، ومتى لايكون؟


إن الجواب على هذا يكون بملاحظة مدى تكرار الاقتران، فحينما يتكرر اقتران حدثين بحيث يكون تكررهما اكثرياً فاننا نقول ان هذا التكرر في الاقتران لايمكن ان يكون صدفة بل لابد ان يكون هناك سبب بينهما او نقول انه لابد من رابط بينهما. بينما عندما يحدث حدث لمرة واحدة او بعدد مرات محدودة فاننا قد نقول انه لايوجد علاقة بين الامرين، ونسمى ذلك بالصدفة النسبية


أما الصدفة المطلقة فهى حادث بلاسابق وبلاسبب
تخيل معي تفاحة ساكنة على الطاولة ، وفجأة وبدون سبب وفى غير وجود الة حادة تسقط مشطورة الى نصفين
طبعا هذا مستحيل ، وهو مايعيدنا الى مقولة أن لكل سبب مسبب.


أما الحتمية فهى تعنى ببساطة حتمية توافر شروط لحدوث الحدث
( لابد من الحرارة ليغلى الماء - لابد من الرودة ليتجمد ) ولكن فى مجال الفيزياء المتناهى فى الصغر أصبح من العسير الدفاع عن مبدأ الحتمية المطلقة التى تحكم الكون كله، مما يعطى الفرصة للصدف والعشوائية فى التأثير على الظواهر والأحداث


والحادث هو ماكان مسبوق بعدم فى الزمان السابق


كان لابد من وضع هذه العريفات امام القارئ للتأكيد على وجهة النظر


5- الوجود والعدم


تفترض الأديان وجود كائن أسمى قام بخلق الكون دفعة واحدة ، وبناء على تصور مسبق ، وهو مايتعارض مع مايعتقده الملحد. فإفتراض وجود هذا الكائن قائم على الصدفة المطلقة والحتمية المطلقة وهما ماقد تم نقضه بالتجارب والأبحاث العلمية. فالمادة قديمة وليست بحادثة ، وظاهرة التردد الفراغي الكمي ( وملخصها أن فى كل مكان مماكنا نعتقده فراغ وحتىأصغره الذى هو الفراغ الذري فإن ترددات مستمرة تحدث بين توالد كتلة ومايساويها من الكتلة السالبة وهو مايعنى استحداث مستمر للكتلة فى الإتجاهين الموجب والسالب مما يجعل الكتلة تبدوا ثابتة فى المنتصف مساوية الصفر ) وهذه الظاهرة هى ( الإله الحقيقى لعملية الخلق والعدم المستمرة الحدوث
أما الأديان ففى حين تفترض هذا الكائن الموجود بذاته والغير محتاج لسبب ولامسبب ؛ تفترض أيضا أن الانسان بقدارت محدودة عاجزة عن ادراكه، والعدم لايمكن ادراكه فادراكه ينفى كونه عدماً ، ومالايمكن إدراكه ينتفى وجوده كونه غير مُدرَك وهنا أعود الى نموذج بوهر الأولى للذرة فقد تم إدراكه بالدليل الرياضى ولم نكن قد رأيناه ، والجاذبية كذلك يمكن إدراكها وقياس قوتها أو ضعفها ليس فقط بالحواس الخمسة ولكن أيضا بالعقل والمنطق والرياضيات. وتكون المادة هى الأرجح فى كونها أزلية حيث ظهرت نظريات تكمل نظرية الإنفجار العظيم وتدعمها بدراسة ماقبل الكون الحالى ، وهى تقول بأبدية المادة ودورية الأكوان وتقيس وتختبر أثر التوسع ثم الإنهيار والتقلص وحتى مدى تأثير حرارة الأيبورى فى الحالتين وكيف تؤثر على اتساع أو تقلص الكون .




دارون والحقيقة


عندما أنتجت العبقرية الخلدونية المقدمة الشهيرة لم يقل صاحبها أنه قد توصل الى علم كامل مكتمل، ولكنه فتح الباب لعلم فى منتهى الأهمية كان قد أسماه علم العمران ولكن تغير حتى الأسم الى علم الإجتماع. وحتى الطالب فى اقسام الاجتماع اليوم قد تخطى بكثير ماجاء فى مقدمة ابن خلدون، وهذا لاينفى أبداً فضل المؤسس العبقري.
عندم وضع الخوارزمى مخططاته لم يصدر عنه مايدل على كفاية ماوضع من عمليات منطقية تشكل اليوم عصب التكنولوجيا الرقمية ، ومعظم البرمجيات تعتمد على مخطط الخوارزمي فى المنهج والتفكير وليس لإجترار ماقعد من قواعد. ورغم أن علم ( Algorism ) قد تخطى مرحلة مؤسسه بكثير إلا أن عبقرية المؤسس فى بداية البحث تستحق الإعجاب، وهكذا الحال مع ابن الهيثم وما نراه من كاميرات وعدسات وبصريات، وابن حيان فى الجبر والمنطق الرياضى ومانتج عنه من دوائر كهرومنطقية حسابية وكل مايعمل بالأنظمة الرقمية.
وبالمثل كان الفاتح الدارويني ( أصل لأنواع ) وجدير بالذكر أن دارون نفسه وضع فى مقدمة كتابه اعتراف بأن النظرية مازالت تحتاج الى الكثير من العمل لتثبيتها وإقامة أدلة أ‘مق ، وقد عرض من الإعتراضات التى يمكن أن تقابلها النظرية غير القليل ، وترك لعلماء من بعده علماً يتضخم كل يوم ويتقابل وت\يتقاطع مع علوم كثيرة أخرى . وقد راكم العلماء من الأدلة التى جمعوها من شتى بقاع الأرض من حفريات قديمة وأبحاث على الحيوانا الموجود مايجعل النظرية توشك أن تصك من الحقائق ككروية الأرض.


إن الجمود على كتاب أصل الأنواع والتوقف عند ماجاء به دون ماتتابع بعده من أبحاث واكتشافات هو من صفات المتدينين ، وهو من مضادات التعقل ، فهو كالمقدمة الخلدونية ، أساس يبنى عليه وباب يدلف منه، وهو ليس كتاب مقدس بل هو بحث يَبت كل يوم صحته وعبقرية باحثه المبكرة.


مانراه اليم من مقاومة الأصوليين من الأديان الإبراهيمية الثلاثة هو من قبيل ماحدث مع جاليليو ، وماتلبث هذه المقاومة أن تنزوي على نفسها حتى تتوارى تماماً فى طي النسيان.


وقد بدأنا بالفعل نلاحظ محاولات خجلة للتوفيق بين الأديان والنظرية الثورية، والحقيقة أن هذه المقاومة الظاهرية موجودة فقط فى التجمعات المتشددة كاليهود الأرثوذكس والمسيحين اليمينين من إنجليين وكاثوليك وأرثوذكس وكذلك الشيعة والسنة الأباضية والطحاوية الوهابية . أما المجتمعات التى يخف فيها وطأة التشدد أو العلمانية فإن النظرية تدرس فى المدارس والجامعات بشكل طبيعي






فى التطور والإنتخاب الطبيعي


فى ظل ظروف خاصة ، بل شديدة الخصوصية فى زمن بعيد على كوكبنا تلاقحت الصدف الصدف ( نعنى الصدفة كما بيناها سابقاً وليس كما يصورها المتدينين ) متفاعلة لتنتج حمض معقد التركيب هو الحمض النووى .


تلك الظروف من حرارة وضغط وتفريغ كهربي ومواد مكونة بعينها ......الخ ، قد لاتتكرر مرة أخرى ففى أحد أكثر التقديرات تفاؤلا كان أحتمال تجمع هذه الظروف احتمال الى مليارات عديدة ، لكن هذا الإحتمال الضئيل ليس بمنعدم والواقع أنه قد حدث وأن توافرت له الظروف فعلا فحدث وأنتج الحمض النووى الذى تفاعل مع محيطه وأستنسخ نفسه عدة ألاف من المرات مكوناً النواة الأولى وهذا التفاعل طبيعي لهذا الحمض كتفاعل حمض الكبريتيك مع مايتصل به من مواد


ومنذ تولد أول خلية طبيعياً فى البيئة الأرضية قديماً وهذه الخلايا تتكثر وتتشكل وتتغير ثم تتحد لتتغير مرة أخرى ثم تتكاثر .... وهكذا


– بالمناسبة هذه الفرضية قد تأكدت بالتجربة العلمية الناجحة فى إنتاج خلية حية صناعية فى المعمل أُعلن عنها يوم الخميس 20 / 5 / 2010 وهذه الخلايا الصناعية ماتزال تتكاثر.


أما المغالطة الكبى فهى فيما يظنه البعض أنه هو نظرية النشوء والتطور، حيث يسأل فى بلاهة ( هل كونت العين نفسها ؟ ) وهو فى الحقيقة سؤال مخادع فلاأحد ذكر أن أى كائن يكون نفسه ، فضلاً عن جزء من كائن مثل العين ، ولا أن يفرض رغبته على تطوره فتتأتى الطفرات على هواه


وفى نفس الوقت السؤال يوحي بالقصد فى التطور – أى أن التغير يتم بناء على خطة للوصول الى هدف أخير ، وهو مايتناقض مع أساس النظرية.
فلاخطة ولاهدف لعملية التطور العمياء


وكما يقول د.ريتشارد دوكينز ( لاأحد يقول أصبر معى قليلاً سنحاول مرة أخرى وسنصنع العين .... كلا ! ليس هكذا يعمل التطور )


بل إن طرية عمل التطور تشبه ياح الصحراء ، تثور فتنقل الرمال السائبة معها ، وإذا تعثرت الرمال بصخرة صغيرة أو شجيرة أو أى جسم فإنها سرعان ماتكون كثيب أو حتى تل ممايؤثر على حركة الرياح نفسها فتتكاثر الرمال المتراكمة وقد يكون هناك أكثر من جسيم فى مناطق غير بعيدة فتشكل مايعرف بالغرود التى قد يصل ارتفاعها الى ايقل عن مائة متر بقليل . بذلك تتغير صورة المنطقة التى حُملت منها الرمال والمنطقة التى حُملت اليها الرمال.


كما يمكن أن يصدق على التطور ماقاله ابن خلدون فى مقدمته عن دورات حياة الممالك التى تبدأ بصورة ثم عن طريق تغيرات طفيفة تحدث الواحدة تلو الأخرى تتحول الى صورة اخرى مغايرة تماما وبدون تخطيط مسبق من مؤسس المملكة ولا تابعوه.






أما الإنتخاب الطبيعي


فالأفضل أن نوضحه بمثال تخيلي
تخيل حيوان ذو شعر كثيف يولد له 3 صغار أحدهما يشبه أباه فهو كثيف الشعر والثانى ذو شعر متوسط الكثافة أما الثالث فأمرد.
عند تغير المناخ ليصبح حاراً فإن الصغير ذو الشعر الكثيف سيموت أولا دون أن تسنح له الفرصة فى التكاثر، أما المتوسط فمن المحتمل أن يصل الى سن التكاثر ولكن ليس من المرجح أن تكون ذريته كثيرة العدد، أما الأخير الأمرد فهو الأقدر على تحمل الطقس الحار فيكبر ويتكاثر بشكل أكثف . وبعد مدة لايبقى إلا الحيوانات التى لم يقتلها الشعر الكثيف وهى غير شبيهة بالأب الأول والذى كان كثيف الشعر


إذن إنقرضت الدناصورات لعدم صلاحيتها للبقاء وسواء كان فى مواجهة الظروف التى تغيرت على سطح الأرض أو كارثة طارئة فإن إنقراضها يؤيد الإنتخاب الطبيعي وينفى بالضرورة وجود ( تصميم ) أو فكر إلهي . فماالداعي خلق هذا الخلق العظيم ثم القضاء علي دفعة واحدة ؟ طبعاً شيئ غير منطقى ، ولكن فى ضوء التفكير التطوري هذا هو عمل الإنتخاب الطبيعي






الخلق والتصميم


لايوجد دليل واحد على فرضية الخلق التام وفق تصميم ذكى مسبق إلا فى الكتب المقدسة للأديان ، ومن المفترض أن هذه الكتب هى قو الإله فإذا لم يقم دليل على وجود الإله تسقط تلك الأدلة بالتبعية


ولكن المتدينين وخاصة المسلمين يوردون ( أدلة ) يعتبرونها سلاح ماضى ، فما يبدأ أحدهم إلا ويبدأ بما يطلق عليه ( نعمة البصر ) وهو فى الحقيقة العلمية مجموعة تطورات لخلايا جلدية تتأثر بالضوء، كما أن العين مصنوة بشكل سيئ فيوجد بها 13 عيب مختلف أكتفى منها بالبقعة المظلمة واعتلاء الأعصاب فوق الشبكية ، وهما من العيوب التى تنفى بالجزم فكرة التصميم المسبق الذكي فكما نلاحظ كان يمكن تلاشيي هذه العيوب بأسلوب بسيط أستخدم فى الكاميرات التلفزيونية مثلاً، وهذا ( الدليل ) يصلح تماما كدليل على عشوائية الطفرات وليس العكس.


فى معرض معايرتي بأنى أكفر بمن أعيش فى ملكه فأتنفس هواءه وأزدرد طعامه قال لى أحدهم ( ألا تخشى أن تقف اللقمة فى حلقك فتقتلك ؟ )


الحق أنى أخشى .... أخشى فعلاً أن تقف اللقمة فى لقى الذى من المفروض أنه مخصص للطعام فتسد مجرى الهواء فأختنق وأموت، لك ألم يسأل هذا المتدين نفسه : إذا كان هناك صانع هل كان سيصنع تداخل مميت كهذا ؟ أم أن عشوائية الطفرات الحمقاء هى التى من الممكن أن تؤدى الى ذلك العيب القاتل، وهذا التداخل بين جهازين يتعارض عملهما بهذه الطريقة المميتة.


طبعاً أود مواصلة سرد عيوب ( التصميم ) إذا كان تصميماً ، لكن الموضوع سيتحول الى درس فى الكيمياء الحيوية وعلم الوراثة والجينات و...و....


وكما أن رداءة ( التصميم ) تشي بإستحالته فإن التشابه الذى يكاد يكون كامل بين القردة العليا والإنسان – سواء فى الشكل الخارجى أو التركيب الداخلي أو التراكب الخلوي والصفات الوراثية، بل وحتى الأخطاء الشفرية فى الحمض النووى ؛ وهو مايعنى ببساطة وحدة الأصل المشترك الذى تحدر منه القردة الأربعة والإنسان القرد الخامس






الأخلاق بين الأديان والإلحاد


مفهوم الأخلاق


عندما نقول الأخلاق، فإننا نعني بها مجموعة العادات والقواعد السلوكية التي تؤمن بها مجموعة من الناس في مرحلة ما من المراحل التاريخية . ومنذ انتصب جدنا الهومو إريكتيس على قدمية ، و ربما من قبل ذلك عندما بدأ الناس يعيشون في مجتمعات ظهرت الحاجة لما ينظم حياتهم بحيث لا يؤذي بعضهم بعضا و من هنا جاءت الأخلاق؛ فالمجتمعات التي استطاع أفرادها الإلتزام بالمعايير الأخلاقية نجحت و ازدهرت و أثمر التعاون بين أفرادها..بينما الجماعات التي لم يستطع أفرادها الإلتزام بالأخلاق إنهارت بسبب السرقة و القتل و ما إلى ذلك..


وحيث أن الحرية مهمة للانسان، فهوعادة لا يضحي بها إلا في سبيل الأمان. لذلك يدعي كل من يحاول الحفاظ على استبداده، أن البديل هو الفوضى وشريعة الغاب، والحروب الأهليـــة لذلك نجد جميع ممثلي الأديان يدعون أيضا أن البديل للأديان هو انعدام الأخلاق، فالأخلاق مصدرها التشريع الالهي، وبابعاد الاله ستعم الفوضى والانحلال الخلقي و"سيذبح الناس بعضهم".


عبر التاريخ كان أهم تطور في الأخلاق هو باتجاه تعميمها وإطلاقها لتشمل أبناء العشائر الاخرى وكافة أعضاء العشيرة الواحدة. والشعار السائد اليوم هو "إعلان حقوق الانسان". بمعنى أن التضامن العشائري أصبح شعورا وطنيا، والديمقراطية الاغريقية أصبحت تشمل اليوم النساء (بينما ألغيت طبقة العبيد). وبينما نرى أن الأديان الكبيرة نشأت في عصر متوسط، فهى لم تلغي فكرة الرق، مارست عنصرية تجاه أبناء الشعوب والأديان الأخرى، واضطهدت المرأة.


والاخلاق قواعد العلاقة الاجتماعية لكيفية السلوك في التعامل مع الاخر. الاخلاق تتضمن الواجبات والحقوق التي ينتظرها اطراف العلاقة من بعضهم البعض والتي تسري على جميع افراد المجتمع . والى فترة قصيرة كان علماء الاجتماع وعلماء الحيوان يعتقدون ان الانسان وحده يستطيع إنتاج قواعد اخلاقية، ولكن في السنوات الاخيرة ظهرت مجموعة كبيرة من العلامات تشير الى ان انواع متعددة من عالم الحيوان تملك اسس بدائية للاخلاق، مثل التفضيل، المساعدة، العدالة وحتى اللاانانية. من هنا نرى ان الاخلاق ليست حكرا على الانسان، بل هي مرحلة تطور انسيابية تختلف درجاته من الادنى الى الاعلى في سلم تطور الانواع البيولوجي


وقد أظهرت البحوث في عالم الحيوان وجود "ضمير" أخلاقي عند القردة وكذلك الثديات الأخرى، والاختلاف عن الانسان يبدو من حيث الدرجة وليس من حيث الجوهر. بمعنى أن جوهر أخلاق الانسان (تحريم القتل مع الاستثناءات، التعاون وتوزيع العمل، العناية بالأطفال والشيوخ، مفهوم للعدالة في التوزيع مع مراعاة المركز الاجتماعي، المعاملة بالمثل والخوف من العقوبة)، هو ذو أصل بيولوجي وليس مكتسبا من الأديان، علما بأن هذه الأخلاق تسري فقط على أبناء الاسرة أو العشيرة الواحدة..


العديد من الفلاسفة يميلون الى إعتبار ان وصف سلوك الحيوان على انه " اخلاقي" يمكن ان يكون صحيح او خاطئ فقط بالارتباط مع مسار ظهور الفعل المشار اليه، اي في إطار العالم الاجتماعي للنوع المعنيبالدراسة، و حيث ان الباحثين هم بشر، لذلك لن يكون بإمكانهم معرفة الاطر الاجتماعية للانواع الاخرى بصورة جيدة ، والفلاسفة من جهتهم لم يوافقوا على هذه النظرة إلى الأخلاق كون موضوعها هو تحديد القواعد التي يسلك الإنسان بمقتضاها في الواقع، بل هم قد ذهبوا إلى أن موضوعها هو فرض القواعد التي ينبغي على الإنسان أن يسلكها في حياته، لذلك فإن الفلاسفة لا يريدون أن يجعلوا من الأخلاق مجرَّد دراسة تقريرية للعادات الخلقية السائدة بين الناس؛ لأنهم يرون أن مهمة الأخلاق إنما تنحصر في وضع المثل الأعلى وبيان الكمال الأخلاقي وتشريع القانون الخلقي. وهكذا، أصبحت الأخلاق في نظر الفلاسفة هي نظرية المثل الأعلى أو هي الدراسة المعيارية للخير والشرالأخلاق. على العكس، نجد ان العديد من البيلوجيين يؤكدون ان الاخلاق الانسانية تمتد جذورها في العالم الحيواني، ولهذا السبب بالذات نجد ان الكثير من الخصائص نتشارك فيها مع الحيوان


ولتوضيح ذلك سنختار بعض المفاهيم الأخلاقية على سبيل المثال وننقل مايقول العلماء فيها


الحق والسلطة والمشاركة


في قطيع الشمبانزي القزم يوجد قائد ذكر وقائدة انثى، يقفون على اعلى الهرم الاجتماعي، ومع ان هذه القاعدة يتفق عليها القطيع إلا انها لاتعني الحيازة على المركز بدون شروط. فالسلطة والقوة لاتعطي الحق بالتصرف بدون التفكير بالمصالح العليا للقطيع، وبدون المحافظة على القواعد الاخلاقية الاساسية المعمول فيها في القطيع. فالقواعد تلزم حتى القائد والقائدة .


القواعد الاخلاقية السائدة في القطيع تصبح سارية المفعول عندما يجد الشمبانزي، مثلا، كمية كبيرة من الطعام. من حيث المبدأ يستطيع الذي عثر على الطعام ان يبقي الطعام لنفسه، ولكن في القطيع يجب الالتزام بقواعد الحياة الجماعية. بقية افراد القطيع ينطلقون من ان الواجد سيقوم بتقاسم اللقية مع الاخرين، على شكل صدقة، ولذلك لايتورعون عن المطالبة بحصتهم. القرد المهيمن لديه السلطة على اخذ الطعام من صاحبه ولكن ليس لديه الحق بذلك. وحتى لو كان القرد الذي وجد الطعام من اضعف القردة ومن اقلها شأنا في الهرم الاجتماعي للقرود، لكننا نجد ان القرد المهيمن ينسى انه الاقوى ويقف في صف المطالبين بالتقسيم. لذلك نرى وكأن الشمبانزي يقر حق الملكية وتوزيع الملكية، التي هي ايضا احد المفاهيم الاخلاقية الانسانية


العــدالـــة :


وفي تجربة قادتها البيلوجية Sarah Brosnan, من مركز يركيس للتجارب على القرود في اتلنتا، وعالم علم النفس Dr. Frans B. M. de Waal, على القردين من قرود االكابوتشين الذكية للغاية، حيث أعطت كلا القردين مجموعة من احجارا صغيرة وعلمتهم ان يبادلوا الاحجار مقابل قضمات من الخيار. وكلا القردين وافقوا على ان عملية التبادل كانت فكرة رائعة، إذ تمكنهم من تبديل الاحجار الغير نافعة بقضمات من الطعام الطيب. في نهاية يوم التجربة قامت الباحثة، فجأة، بتغيير قواعد عملية التبادل. الان صارت تعطي لأحد القرود عنقودا من العنب مقابل احجاره، والقرود تفضل العنب على الخيار، في حين استمرت على اعطاء الخيار للقرد الثاني. النتائج كان غضب القرد الاول الذي اعتبر ان عملية التبادل غير عادلة.


التعاون والصدقة:


وجبة واحدة لن تكون بالتأكيد الخط الفاصل بين الموت والحياة عند الشمبانزي، ولكن ستكون كذلك بالنسبة لطائفة من الحيوانات الاخرى. الخفاش شارب الدم الذي يطير ليلا باحثا عن ضحاياه النيام، حساس للغاية. خفاش مصاص الدم هو الثدييات الوحيدة التي تعيش بهذه الطريقة فالدم يملك قيمة غذائية كبيرة ولكن مصدره غير مضمون يوميا، ولذلك نجد ان كل عاشر خفاش يعود الى المأوى المشترك ببطن خاوي. الخفاش يحتاج يوميا الى دم بما مقدار نصف وزن جسمه على الاقل ، وبالتالي فيومين الى ثلاثة ايام بدون دم تعني الموت المؤكد. لحسن حظ الخفاش فأن للقطيع مشاعر تضامنية ويقومون بالتصدق بالدم على من لم يتوفق بالحصول على رزقه في ذلك اليوم. هذه المشاعر الاجتماعية تصدر عن جميع افراد القطيع تجاه جميع افراد القطيع، وليست بسبب القرابة. فالتشارك بالطعام جزء لايتجزء من السلوك اليومي للخفاش مصاص الدم، وهو يشبه شبكة حماية اجتماعية، إذ ان المتصدق ينطلق من انه ايضا سيحصل على نفس المساعدة عندما يفشل في الصيد. يلاحظ ان الخفافيش تمارس هذه العادة يوميا كشعيرة لايشذ عنها احد. عند الشمبانزي نجد انه يسود اخلاق التبادل التجاري، حيث التبادل يعتمد على مستوى العلاقة الفردية بين الطرفين. مثلا، إذا كان الشحاذ منهم قد قدم سابقا خدمة ممائلة او خدمة اخرى تجعل المانح يتذكرها برضى، فأن حظه بالحصول على منحة من الطعام تتزايد.


التعاطف والرضى :


قرود الكابوتشي، الذي سبق ان تكلمنا عنهم، يقومون بوزن سلوكهم، ايضا، بمعيار الفائدة المتبادلة. في احدى الابحاث الامريكية وضع الباحث طبقين امام قردين، كل منهم في قفصه المنفرد. الباحث جعل ان القردين يستطيعون الوصول الى الطبق فقط إذا تعاونوا سويا. احد الطبقين كان ممتلئ بقطع التفاح في حين كان الثاني فارغ. كلا الطبقين كانوا شفافين حتى يتمكن القردة من الرؤية والمعرفة المسبقة بالتوزيع الغير عادل الذي ينتظرهم. وبالرغم ذلك، نجد ان القرد صاحب الطبق الفارغ عاون جاره على الوصول الى طبقه، آملا بأن الجار سيقوم بتقسيم الطعام معه. وبالفعل قام الجار بالتعبير عن شكره من خلال إرسال بضعة قطع من التفاح الى قفص الاخر. اظهرت التجربة ايضا انه وبدون التعويض المادي على المساعدة فأن المساعدة لن تتكرر. مساعدة الجيران لبعضهم عند الشمبانزي والكابوتشي متوقف على الرغبة برد الجميل، وهي حجر اساسي في البناء الاخلاقي. احدى القواعد الدينية في الكثير من الاديان تقول ان على المرء التعامل مع جاره كما يحب ان يعامله جاره. هذه القاعدة الاخلاقية الاساسية توحد مفهوم التعاون مع مشاعر القبول. بمعنى اخر تلزمنا بتصور مشاعر الاخر تجاهنا (التعاطف والرضى) وإتخاذ القرار إنطلاقا من مشاعر الاخر.


الاخلاق الانسانية لايمكن تصور وجودها بدون التعامل الثنائي القائم على القبول المتبادل والشعور بالرضى والتعاطف المتبادل. منذ فترة قصيرة برهن العلماء الكنديين على ان حتى الفأر يتعامل إنطلاقا من المشاعر. الفئران اظهرت ردة فعل واضحة عندما تعرض جيرانهم او اخوانهم/اخواتهم الى الالم، في حين لم يعيروا ادنى اهتمام بمشاعر الالم الصادرة عن فئران اخرى. الظاهرة نفسها نجدها موجودة عند الانسان، والرضى والتعاطف ايضا ظاهرة شائعة وسط القرود. نرى مثلا انه بعد عركة دامية بين قردين، يقوم عضو ثالث من القطيع بمعانقة وتقبيل القرد الخاسر في محاولة للتسرية عنه. هذا السلوك يخفف عن الخاسر ويجعله يتوقف عن الصراخ.


تماما كما نحاول ان نعلم الطفل السلوك الاخلاقي، يظهر وكأن الاخلاق ايضا شئ يمكن ان تتعلمه القرود.( Rhesus Monkey ) قرود معروفة بعدائيتها وإصرارها، في حين قريبها البيلوجي ( Macaca ) يسعى اكثر الى التفاهم والسلام، وهو سلوك يؤسس على التعاطف والرضى. الباحثين وضعوا صغار النوع الاول العدائي عند النوع الثاني المسالم، لينمو وتجري مقارنة سلوكهم مع سلوك اقرانهم الذين نمو عند قطيعهم الاصلي. سلوك الذين نمو عند القطيع المسالم تغير تغييرا ثوريا، فأصبحوا يسعون الى المسالمة وحل المشاكل بالروية بمعدل ثلاثة الى اربع مرات عن المعدل الطبيعي لنوعهم. وحتى الافراد التي اعيدت الى قطيعها الاصلي قبل ان تنضج تماما حافظت على سلوكها المسالم والساعي لحل المشاكل سلميا. البحث اظهر ان السلوك العدائية سلوك مكتسب في مرحلة النمو، من الاهل، تماما كما هو الامر عند البشر.


بالتأكيد أن مفاهيم الاخلاق عند الانسان اكثر تعقيدا منها عند القرود، التي بدورها اكثر تعقيدا منها عند بقية الحيوانات. ومع ذلك فالكثير من التصرفات الاخلاقية تطورت عن تصرفات اخلاقية خام لازالت جذورها موجودة في عالم الحيوان. وحتى ارقى المفاهيم الاخلاقية تملك جذورا خام في اساسنا الحيواني. الانسان ليس الحيوان الوحيد الذي يملك مفاهيم العدالة والتضامن والتعاون والتكافل والحرص على المساعدة.


من أين يستقي الملحد المبادئ الأخلاقية ليربي أولاده عليها؟


ليس هناك أي شيء "مفاجئ".. فالملحد يعلم أولاده الأخلاق التي يتبعها بنفسه، وهي غالبا أخلاق المجتمع حوله. وحتى وإن اختلف مع المجتمع حوله في نظرته فهو ليس المؤثر الوحيد في تربية أولاده، بل هناك تأثيرات عديدة أخرى (رفاق المدرسة، الأقارب الآخرون، التلفزيون..الخ). أما التبرير الديني للأخلاق، فهو ممكن إذا أردنا تخويف الأطفال (إذا كذبت فسيحرقك الله بالنار) .



مادة أم خلق


الموضوع عن رؤيتنا لعالمنا المادى ...هل من الممكن أن يكتفى بنفسه أم أنه يحتاج لقوى ميتافزيفية لترغمه أن يعمل وفقا لقوانينه .نحن أمام فلسفة ترتدى ثياب العلم ...أو يمكن أن تقول علما ومادة يصاغ فى أثواب فلسفية حتى تجعلنا نتلمس ونتحسس واقعنا المادى، بدون أى إضافات تقحم عليه ..


الموضوع للكاتب الرائع جواد البشيتى

في "النسخة الفلسفية" مِنْ "قصَّة الخَلْق"، لن يكون "مِنْ أين جاء الكون؟" هو السؤال الصحيح، فهذا السؤال إنَّما هو "مِنْ أين جاءت المادة؟"، فـ "الكون"، بكل ما يشتمل عليه مِنْ مجرَّات ونجوم وكواكب وأجسام وجسيمات وقوى، وغير ذلك، لا يَعْدِل "المادة"، وإنَّما يَعْدِل، جزءاً، فحسب، مِنْ وجودها. أعْلمُ أنَّ هذا "السؤال الصحيح" يقوم على "فرضية خاطئة"، علمياً وفلسفياً، هي فرضية "أنَّ المادة جاءت.."؛ وكل ما يجيء يذهب؛ وكل ما يجيء ويذهب ليس بالسرمدي. ولكن دعونا نبدأ بها، فكَمْ مِنْ فرضية خاطئة أفضت، في البحث العلمي المنطلق منها، إلى ما يدحضها، ويقيم الدليل، بالتالي، على صواب نقيضها!
"الخَلْق" إنَّما هو خَلْق "المادة" مِنَ "العدم"، أو تحويل "العدم" إلى "وجود"، على يديِّ "قوَّة غير مادية"، فـ "الخَلْق" ليس له مِنْ معنى إلا إذا سلَّمْنا، أوَّلاً، بالفكرة الآتية: كان "الخالِق" ولم يكن شيء، فـ "الخالِق" كان قَبْلَ "الخَلْق"، وقَبْلَ "المخلوق". وإذا كان مِنْ معنى لعبارة "كان العدم ولم يكن مِنْ وجود للمادة" فيمكننا أنْ نقول: "كان الخالِق، وكان العدم". ثمَّ أراد "الخالِق" خَلْق "المادة" مِنَ "العدم"، فخُلِقتْ.
"المنطق" ليس إلا، لا يمكننا أنْ نقول إنَّ "س" جاءت، أو انبثقت، مِنْ "ص" إلا إذا أقمنا الدليل، أوَّلاً، على وجود "ص"، فقَبْلَ وجود "س" لا بدَّ مِن وجود "ص"، ولا بدَّ، بالتالي، مِن أنْ نتمكَّن مِن إثبات وجود "ص". قياساً على ذلك، ينبغي لنا، قَبْلَ القول بخَلْق "المادة" مِنَ "العدم"، أنْ نقيم الدليل على أنَّ "العدم" كان قَبْل "المادة" و"الوجود"، فأين هو الدليل "المنطقي" على أنَّ "العدم" كان قَبْل "المادة" حتى نقول بمجيء "المادة" مِنَ "العدم"؟!
لا تَقُلْ لي إنَّ دليلي هو أنَّ كل شيء "ينشأ"، ثمَّ "يزول"، وأنَّ هذا "الشيء" الذي تدعونه "المادة" قد "نشأ" هو أيضاً، ولا بدَّ له، بالتالي، مِن أنْ "يزول". لا تَقُلْ ذلك؛ لأنَّ ما نراه مِنْ "نشوء" و"زوال" لـ "الأشياء" لا يقيم الدليل على أنَّ "الشيء" ينشأ مِنْ "لا شيء"، أي مِنَ "العدم"، كما لا يقيم الدليل على أنَّ "الشيء" بزواله يذهب إلى "العدم". ما نراه إنَّما يؤكِّد "التحوُّل المادي" ليس إلا، فكل شيء ينشأ مِنْ شيء (أو أشياء) وكل شيء يتحوَّل، في زواله، إلى شيء آخر (أو أشياء أخرى). كل شيء ينشأ، وكل شيء يزول؛ ولكن "المادة" ليست بـ "الشيء المحدَّد الملموس" حتى ينشأ ويزول، فهذا الذي ينشأ ثمَّ يزول إنَّما هو شكل مِنْ أشكال لا عدَّ لها ولا حصر لـ "المادة"، التي هي "ثابت التغيُّر"، فبَعْد كل زوال تبقى "المادة"، أي يبقى هذا "الجوهر"، الذي لم ينشأ حتى نقول بزواله.
في الفيزياء، التي لم تتطهر بَعْد مِن "الميتافيزيقيا"، نرى كثيراً من النظريات والتصوُّرات التي يحاول أصحابها الوصول إلى ما يسمُّونه "المادة الأوَّلية" حتى يصبح ممكناً القول بمجيئها مِنَ "العدم". إنَّهم، الآن، يعتقدون بوجود "المادة الأوَّلية" في جسيمات مثل "الإلكترون" و"الكوارك".
سوف يستنفدون الوقت والجهد لإثبات أنَّ "الإلكترون"، مثلاً، هو نوع من أنواع "المادة الأوَّلية"؛ ولكنَّ محاولتهم ستتمخَّض، أخيراً، عن نتائج تصيبهم بالخيبة والإحباط. ولسوف يقوِّض هذا الجسيم، أي "الإلكترون"، اعتقادهم بـ "المادة الأوَّلية" كما قوَّضته "الذرَّة" مِنْ قَبْل. سوف يكتشفون الآتي: الإلكترون يتألَّف هو، أيضاً، مِنْ جسيمات ليست "أوَّلية".. يتألَّف مِنْ جسيمات، كلٍّ منها، أصغر منه، فالجزء لا يمكنه أنْ يكون أكبر مِنَ الكل. وكلٌّ منها موجودٌ (في داخل الإلكترون) بـ "مقدار". وكلٌّ منها في حركة دائمة، أي أنَّه ينتقل مِنْ موضع إلى موضع، ولو كان انتقاله هذا في شكل "اهتزاز". وكلٌّ منها يُرْسِل ويستقبل "مادة". وسيكتشفون أنَّ الإلكترون يتألَّف، أيضاً، مِن "فضاء"، أو "فراغ"، فهذا الجسيم، وكلُّ جسيم، لا يُوجَد إلا إذا كان مِنْ حوله فضاء، وفي داخله فضاء، يمكنه "التمدُّد"، ويمكنه "التقلُّص". قصارى القول، سوف يكتشفون أنَّ الجسيم الذي يعتقدون أنَّه جسيماً أوَّلياً ليس سوى "الذرَّة مصغَّرةً"! "الذرَّة" لا تحتاج إلى "العدم"، تفسيراً لـ "وجودها"؛ ذلك لأنَّها جاءت مِن "اتِّحاد" جسيمات عدة، كالبروتون والنيوترون والإلكترون. أي لأنَّها "مُركَّب"، وليست بـ "مادة أوَّلية". أمَّا ما يسمُّونه بـ "الجسيم الأوَّلي"، كـ "الكوارك" و"الإلكترون"، فيحتاج، في معتقَدِهم الفيزيائي، أي في وهمهم الفيزيائي، إلى "العدم"، تفسيراً لـ "وجوده"، فإذا لم يأتِ "الجسيم الأوَّلي" إلى الوجود مِنْ خلال اتِّحاد "عناصر مادِّية"، فمِنْ أين، وكيف، أتى؟ إنَّهم، ومِنْ أجل الوصول إلى هذا السؤال الذي يسألون، يستمسكون بـ "المادة الأوَّلية"؛ وليس مِنْ جواب يملكون عن سؤالهم هذا سوى الجواب الآتي: لم يأتِ إلا مِنَ "العدم"! جسيمهم الخرافي الميتافيزيقي هذا لا يتألَّف مِنْ شيء، ولكنَّه يَدْخُل في تكوين كل شيء. وهذا الجسيم "البسيط"، "غير المُركَّب"، لا بدَّ، في تصوُّرهم ومعتقدهم، مِنْ أنْ يكون قد انبثق مِنْ "لا شيء"، أي مِنَ "العدم"! هل يزول؟ جوابهم: أجل يزول، فـ "الإلكترون" ومضاده "البوزيترون"، مثلاً، يمكن أنْ يفني كلاهما الآخر. وهذا "الفناء المادي" معناه عندهم هو تحوُّل الجسيمان الأوَّليان المتضادان إلى "طاقة خالصة"، أي إلى "فوتونات"، يمكن أنْ تنشأ منها جسيمات أوَّلية متضادة، مثل "الإلكترون" و"البوزيترون".

نظرية "البيضة والدجاجة"!

وهكذا تنشأ "الجسيمات الأوَّلية المتضادة" مِنْ "طاقة خالصة"، أي مِنْ "فوتونات"، وتتحوَّل "الفوتونات" إلى "جسيمات أوَّلية متضادة". هذه هي نظرية "الدجاجة والبيضة"، التي بها يُفسِّرون، أيضاً، "الجسيمات المُركَّبة المتضادة"، كـ "البروتون"، وضده "البروتون السالب"، الذي يتألَّف كلاهما مِنْ ثلاثة أنواع مِنَ "الكواركات"، فعندما يفني كلاهما الآخر تنشأ "طاقة خالصة"، يمكنها التحوُّل إلى "جسيمات أوَّلية (أو مُركَّبة) متضادة". على أنَّ نظرية "الدجاجة والبيضة" لا تحلُّ، في حدِّ ذاتها، مشكلة "مِنْ أين جاءت المادة؟"، فهذه النظرية يمكنها أنْ تُخْبِرنا بتحوُّل "الطاقة الخالصة"، أي "الفوتونات"، إلى "جسيمات متضادة أوَّلية أو مُركَّبة"، وبتحوُّل هذه الجسيمات عبر فنائها المتبادل إلى "طاقة خالصة"؛ ولكنَّها لا تُجِيب عن سؤال "مِنْ أين جاءت الدجاجة والبيضة معاً؟". لقد أجابوا عن السؤال، ولكن ليس في طريقة فيزيائية، وإنَّما في طريقة ميتافيزيقية، وإنْ ألبسوا إجابتهم مفردات وعبارات فيزيائية. بحسب إجابتهم، كان الـ "Big Bang" هو "القوَّة" التي خلقت "البيضة والدجاجة معاً"، ففي "نقطة مفردة"، تَعْدِل "العدم" في خواصِّها، وقع "الانفجار الكبير"، فخُلِقَ إذ وقع كل شيء. خُلِقَ به، وبفضله، الزمان والفضاء والقوى.. لقد خُلِقَ "كل شيء" مِنْ "لا شيء". وهذا "الخَلْقُ" تسمح به، حسب زعمهم، "ميكانيكا الكم". هُمْ، أوَّلاً، اخترعوا "المادة الأوَّلية"، أو "الجسيم الأوَّلي". ثمَّ قالوا بتحوُّله إلى "طاقة خالصة"، وبتحوُّل هذه "الطاقة الخالصة" إليه. ثمَّ قالوا بانبثاق "الكون"، الذي يفهمونه على أنَّه "كل العالم المادي"، مِنْ "بيضة العدم"، أي مِنْ تلك "النقطة المفردة"، الميتافيزيقية الخواص والماهية. أمَّا هذا "الخالق الجديد، الذي خَلَقَ "كل شيء" مِنْ هذا الـ "لا شيء" المسمَّى "النقطة المفردة"، فدعوه "الانفجار الكبير" Big Bang. هنا تقاطعت قصة "الخَلْق التوراتية" القديمة والشهيرة مع نظرية الـ "Big Bang" في الخَلْق، فـ "المادة" Matter "نشأت" مِنَ "العدم"، ولسوف تعود إلى "العدم"، فـ "الزوال" إنَّما هو العاقبة الحتمية لـ "النشوء".
"المادة"، مهما كان شكلها أو نوعها، ومهما كان حجمها، يجب، ويجب، أنْ تكون "مُركَّبة"، فـ "البسيط" لا وجود له في العالم المادي، الذي ليس فيه مِنَ "النشوء"، أو "الزوال"، إلا ما يؤكِّد "التحوُّل"، فلا شيء ينشأ مِنْ لا شيء، ولا شيء ينتهي إلى "العدم". معنى ذلك، أنَّ "السلسلة المادِّية" لا نهاية لها، فـ "الكوارك"، مثلاً، يجب أنْ يكون "مُركَّباً"، أي مؤلَّفاً مِنْ "جسيمات"؛ وكل جسيم من هذه الجسيمات، يجب أنْ يكون هو، أيضاً، مؤلَّفاً مِنْ جسيمات.. وليس لهذه السلسلة مِنْ نهاية. و"العالم المادي" إنَّما هو قصة "نشوء" و"زوال" أشياء لا عدَّ لها ولا حصر؛ ولكن ليس مِنْ معنى لـ "النشوء" و"الزوال" غير معنى "التحوُّل المادي"، فأين هو هذا "الشيء" الذي نشأ مِنَ "العدم"، أو الذي بزواله عاد إلى "العدم"، حتى نقول بفكرة "الْخَلْق مِنَ العدم"؟!
سلِّموا بـ "الحقيقة"، التي ترونها بالعين والعقل، والتي تُؤكِّد ذاتها بذاتها دائماً.. سلِّموا بـ "حقيقة" أنَّ "المادة مُركَّبة"، وأنَّ "التحوُّل المادي" هو كل معنى "النشوء" و"الزوال". سلِّموا بها؛ لأنَّ "العِلْم" لم يأتِ قط، ولن يأتي أبداً، إلا بما يقيم الدليل على صدق ذلك.

*حجَّة "النظام" في الكون

ولكن، هل انتهت وتقوَّضت كل حججهم؟ كلاَّ، لم تنتهِ ولم تتقوَّض بعد، فهناك "أحجية"، أو "حجَّة"، ما يسمُّونه "النظام الدقيق والمُحْكَم" للكون. قبل اكتشاف قانون "القصور الذاتي"، كانوا ينظرون، في دهشة وحيرة، إلى حركة الكواكب في السماء، فحركتها كانت "مستمرة"، و"منتظَمة"، أي أنَّ حركة الكوكب لا تتوقَّف، لا تزيد، ولا تنقص، ولا تتغيَّر في الاتِّجاه. تملَّكتهم الدهشة والحيرة؛ لأنَّهم كانوا يرون أنَّ "الكرة" المتحرِّكة على "سطح مستوٍ" لا تظلُّ تتحرَّك إلى الأبد، فحركتها تقلُّ شيئاً فشيئاً حتى تتوقَّف تماماً. فإذا أردتَ أنْ تستمر "الكرة" في حركتها فعليكَ أنْ تدفعها بين الفينة والفينة. قياساً على ذلك، قالوا بضرورة وجود "قوَّة ميتافيزيقية" تعمل، في استمرار، على بقاء الكواكب في هذا النمط مِنَ الحركة، أي في حركة دائمة لا تتوقَّف، ومنتظَمة، وغير متغيِّرة الاتِّجاه. هذه "الأحجية" ما عادت بـ "الأحجية" إذ اكتشفنا قانون "القصور الذاتي"، فالكوكب، الذي لا يتعرَّض لتأثير قوَّة، كـ "قوَّة الاحتكاك" بين "الكرة" و"السطح المستوي"، يظل يتحرَّك، إلى الأبد، بالسرعة ذاتها، وفي الاتِّجاه ذاته، أي أنَّ "قصوره الذاتي"، وليس تلك "القوَّة الميتافيزيقية"، هو الذي يبقيه في هذا النمط مِنَ الحركة.
ماذا بقي مِنْ هذه "الحجة"؟ بقي آخر بقاياها، وهو "الدفعة الأولى"، فهُم قد يوافقون على هذا التأثير لقانون "القصور الذاتي"، ولكنهم سيستمسكون بـ "الدفعة الأولى"، فثمَّة "قوة ميتافيزيقية" قامت بـ "دفع" الكوكب "الساكن"، ثمَّ تولَّى قانون "القصور الذاتي" إنجاز "بقية المهمة"!  وأحسب أنَّ "السوبر نوفا"، مثلاً، يدحض آخر بقايا تلك "الحجة"، فـ "سحابة الهيدروجين الضخمة" يستحيل وجودها إذا لم تكن "الجاذبية" Gravity جزءاً لا يتجزأ منه.
لنتَّفق، أوَّلاً، على هذه "المقدِّمة" التي لا غنى عنها، فإذا هُم أثبتوا لنا أنَّ هذه "السحابة" ممكنة الوجود مِنْ دون "الجاذبية" فإننا، عندئذٍ، نسلِّم بأنَّ "القانون الطبيعي"، أو "النظام الطبيعي"، مثل قانون "الجاذبية"، قد أُدْخِلَ إدخالاً في "العالم المادي". وبعد الاتِّفاق على أنَّ "سحابة الهيدروجين" و"قانون الجاذبية" هما "شيءٌ واحد"، نقول إنَّ الجاذبية تقوم بتركيز "المادة" في "السحابة"، وإنَّ هذا التركيز، أو التقليص المستمر والمتزايد لحجم "المادة" في "السحابة"، ثمَّ في "النجم العملاق" المنبثق منها، هو الذي يُهيئ أسباب "الانفجار"، الذي بـ "قوَّته"، وليس بـ "قوَّة الدفعة الأولى الخفية"، تُقْذَف أشلاء وشظايا الطبقة الخارجية لـ "النجم العملاق" بعيداً في الفضاء. كل شظية مِنْ تلك، أكانت كبيرة أم صغيرة، تستمر، بفضل قانون "القصور الذاتي"، في الحركة، بالسرعة ذاتها، وفي الاتِّجاه ذاته، إلا إذا تأثَّرت بقوَّة خارجية. "المادة"، أو "الطبيعة"، الخالية، أو المُفْرَغة، مِنَ "القانون"، أو "النظام"، لم تُوجَد قط، ولن تُوجَد أبداً. إنَّ "سلك النحاس" يتمدَّد بالحرارة. وكذلك سائر "المعادن". وهذه "الظاهرة الفيزيائية" كشفت وأكَّدت وجود وعمل "قانون فيزيائي أو طبيعي موضوعي" هو قانون "التمدُّد الحراري للمعادن". فهل كان ممكناً تَصَوُّر وجود "سلك مِنَ النحاس" قَبْلَ أنْ تُدْخِل "قوَّة خارجية ميتافيزيقية" هذا "القانون"، أو "النظام"، فيه، وفي "المعادن" على وجه العموم؟!
قديمأً، كانوا ينسبون الظاهرة الطبيعية كلها إلى "الروح"، أي إلى "قوَّة ميتافيزيقية خالِقة خارقة"، فحيث يعجز "العِلْم" عن التعليل والتفسير تتولَّى "الخرافة" المهمة، فتحل "العلَّة المثالية" محل "العلَّة المادية". الآن، لا يجرؤن على ذلك، فـ "العِلْم" اكتشف "القانون الطبيعي الموضوعي" للظاهرة الطبيعية التي حيَّرتهم، وبَسَطَ "أسبابها"، التي يكفي أنْ تجتمع حتى تتكرَّر الظاهرة ذاتها. على أنَّ نجاح "العِلْم" في التعليل والتفسير، وفي الإمساك بمزيدٍ مِنَ "القوانين الطبيعية الموضوعية"، لم يَسْتَنْفِدَ، بَعْد، قدرتهم على تطوير "العلَّة المثالية"، فهُمْ، في موقفهم من "القانون الفيزيائي الموضوعي"، يوافقون، على سبيل المثال، على أنَّ "الحرارة" تُنْتِج "التمدُّد" في "المعادن"، ولكنَّهم يبتنون "جسراً مثالياً" بين ذاك "السبب المادي"، أي "الحرارة"، وهذه "النتيجة المادية"، أي "التمدُّد" في "المعدن"، فـ "الحرارة"، في "المعادن"، ما كان لها أنْ تُنْتِج "التمدُّد" إلا بفضل تلك "الإرادة الميتافيزيقية العليا"، فـ "الروح" يجب أنْ تظل مقيمة في عمق "القانون الطبيعي"! وهكذا يعيدون كتابة "القانون الطبيعي" في طريقة ميتافيزيقية، فيقولون، مثلاً، إنَّ "الإرادة الميتافيزيقية العليا" هي التي سمحت لـ "الحرارة"، في "المعادن"، بأنْ تُنْتِج "تمدُّداً! وعليه، يتحدُّونكَ على أنْ تُجيب عن سؤالهم الساذج الآتي: لماذا هذه "الحرارة" تُنْتِج، في "المعادن"، "تمدُّداً"، ولا تُنْتِج، مثلاً، "صوصاً"؟! أمَّا لو أنتجت "صوصاً"، لجاء سؤالهم الساذج الفاسد على النحو الآتي: لماذا أنتجت "صوصاً" ولم تُنْتِج، مثلاً، "تمدُّداً"؟! لو كان لهم "مصلحة" في "التصالُح" مع "الموضوعية" في التفكير، والنظر إلى الأمور، لأدركوا أنَّ "التمدُّد الحراري" هو مِنَ "الخواص الجوهرية" للمعادن، وليس ممكناً، بالتالي، أنْ يُوجَد أي شيء إلا ومعه، وفيه، "خواصُّه الجوهرية"، فالمعدن الذي لا يتمدَّد بالحرارة لا وجود له.
يمكننا أنْ نشرح "كيف" تؤدِّي "الحرارة" إلى "تمدُّد المعدن"؛ ولكن ليس مِنَ العِلْم في شيء أنْ نسأل عن السبب الذي يجعل "الحرارة" تُنْتِج "تمدُّداً" في المعادن، فليس مِنْ جواب عن هذا السؤال الساذج، وأمثاله، سوى الآتي: "لأنَّ هذا هو طبيعة الشيء"، فالمعدن طبيعته أنْ يتمدَّد بالحرارة.
في "القانون الطبيعي"، نرى أنَّ "اجتماع الأسباب ذاتها" يؤدِّي، حتماً ودائماً، إلى "النتيجة ذاتها"، على أنْ نفهم "اجتماع الأسباب ذاتها" على أنَّه اجتماع للأسباب ذاتها، في جانبيها "النوعي" و"الكمِّي". قد نرى اجتماعاً للأسباب، في مكان ما، أو في زمان ما، ولكننا لا نرى "النتيجة ذاتها"، فيحملنا ذلك على القول بانتفاء "القانون الطبيعي"، و"الحتمية الطبيعية". هنا ينبغي لنا أنْ نمعن النظر، فثمَّة "نقص في المقدِّمات".. نقص "نوعي"، أو "كمِّي"، أي أنَّ "الأسباب ذاتها" لم تجتمع وتتهيَّأ بالكامل، في جانبيها "النوعي" و"الكمِّي". إنَّ في "التكرار" يكمن "القانون"، فإذا ما "تكرَّرت" الظاهرة، أو النتيجة، الطبيعية ذاتها فهذا إنَّما يدلُّ على وجود وعمل "القانون الطبيعي". كل "النظام" في "الكون" إنَّما يُفسَّر، أي يمكن ويجب أنْ يُفسَّر، بـ "قانون موضوعي"، هو جزء لا يتجزأ مِنَ "المادة". فهل مِنْ "نظام" في "الكون" يمكن أنْ يشذَّ عن هذه القاعدة حتى نتساءل في استغراب ودهشة قائلين: "مِنْ أين جاء هذا النظام إلى الكون؟!"."الكون" مُنَظَّم تنظيماً مُحكماً بـ "قوانينه الذاتية الموضوعية".. كان كذلك مِنَ "الأزل، وسيبقى كذلك إلى الأبد. "الفوضى" لم تَسُدْهُ حتى نخترع "قوَّة خارجية ميتافيزيقية"، نَنْسِب إليها فضل "تنظيمه"! وما نراه "نظاماً" في هذا الجانب أو ذاك مِنْ] جوانب الكون إنَّما هو "ظاهرة مؤقَّتة" مهما طال عُمْرها، فـ "القمر"، مثلاً، بينه وبين "الأرض" مسافة معيَّنة، ويدور حولها بسرعة معيَّنة.. هو في هذه الحال، تقريباً، منذ ملايين السنين. هذا يدعونا إلى السؤال عن "سرِّ" هذا النظام الدقيق المُحْكَم؛ ثمَّ "افتراض" وجود "قوَّة خارجية ميتافيزيقية"، يعود إليها الفضل في "خَلْقِ" هذا "النظام" واستمراره. ولكن هذا "المشهد" لن يستمر إلى الأبد، فالقمر، بعد ملايين السنين، لن يبقى في مداره حول "الكوكب الأرضي"، أي أنَّ هذا "النظام" الذي أدهشنا وحيَّرنا لن يدوم طويلاً. سيصبح "قمرنا"، بعد ملايين السنين، في "نظام جديد"، فانتهاء "النظام القديم" لا يعني أبداً حلول "الفوضى"، وإنَّما حلول "نظام جديد".
ونحن في حديثنا عن "مظاهر النظام والتنظيم" في الكون لا نضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ في الكون مظاهر مِنَ "الفوضى" و"المصادفة"، ولكننا نفهم هذه المظاهر فهماً "نسبياً"، فكل ظاهرة نَنْظُر إليها على أنَّها نُتاج "فوضى"، أو "مصادفة" إنَّما هي، في الوقت نفسه، نُتاج "قوَّة الضرورة الطبيعية"، فلو أنَّ "أسبابها الموضوعية" لم تجتمع وتتهيأ لما قامت لها قائمة.
هذه "الشجرة" كان لا بدَّ لها مِنْ أنْ تطرح ثمارها؛ لأنَّ "الأسباب الموضوعية" لطرحها ثمارها قد اجتمعت وتهيَّأت. ولكن، هبَّت، على حين غرة، ريح عاتية، فاقتلعت الشجرة مِنْ جذورها. هذا "الحادث المباغت" نفسِّره بـ "الفوضى" و"المصادفة"، وليس في هذا التفسير مِنْ "خطأ" ما دام يَعْدِل "نصف الحقيقة" فحسب، ففي نصفها الآخر، يمكننا وينبغي لنا، أنْ نرى "الضرورة"، و"القانون"، و"النظام"، في هبوب تلك الريح، التي لو لم تجتمع وتتهيأ "أسباب" هبوبها لما هبَّت.
ليس مِنْ شيء في الكون حَدَثَ إلا وكان حدوثه ضرورة وحتمية، فأين هو هذا الشيء الذي حَدَثَ وكان حدوثه مخالفاً لـ "قانون طبيعي"، أو لم تجتمع وتتهيأ بَعْد "أسباب" حدوثه؟! حُدوث الشيء إنَّما هو في حدِّ ذاته خير دليل على وجود وعمل "القانون الطبيعي الموضوعي"، وعلى أنَّ "أسباب" حدوثه قد "اكتملت"، فـ "الواقع" إنَّما ينطوي على "الضرورة الطبيعية"!

حجَّة "لغز الحياة"

في "الكائن الحيِّ"، وخواصِّه، تكمن "حُججٌ" أخرى، فالفرق الجوهري بين "المادة الحيَّة" و"المادة غير الحيَّة"، يحمل على الاعتقاد بضرورة وجود "القوَّة الخارجية الميتافيزيقية". في هذه "الحُجج" يقولون إنَّ في الكائنات الحيَّة، وفي الإنسان على وجه الخصوص، مِنَ الخواص والصفات ما يقيم الدليل على أنَّ "المادة الحيَّة" لا يمكن أنْ تكون قد جاءت مِنَ "المادة غير الحيَّة"، فبين "الحجر" و"الحياة" هوَّة سحيقة يستحيل اجتيازها إلا بـ "قوَّة خارجية ميتافيزيقية"، أي أنَّ "الطين" يمكن أنْ تُدْخَل فيه "الحياة"، و"الوعي (في مثال "الإنسان")"، بفضل تلك "القوَّة" فحسب. وهكذا، فهموا "الحياة" على أنَّها "مادة طينية" أُدْخِلَ فيها، عَبْرَ تلك "القوَّة"، "جوهر لا مادي"، فمنحها كل تلك الخواص والصفات التي أحدثت هذا "الفرق الجوهري" بين "المادة الحيَّة" و"المادة غير الحيَّة".
قصارى قولهم هو إنَّ "المادة الحيَّة" و"المادة غير الحيَّة" نقيضان، ولا يمكن، بحسب فهمهم للعلاقة بين "النقيضين"، أو "الضدين"، أنْ تتحوَّل "المادة غير الحيَّة"، مِنْ داخلها، وبقواها الذاتية، وبقوَّة الضرورة الطبيعية، إلى "مادة حيَّة". هذا القول إنَّما يعكس خللاً في طريقة التفكير والنظر إلى الأشياء وتطورها، فنحن لو فهمنا "التطور"، الذي لا ينكره إلا كل مَنْ له مصلحة في محاربة البديهيات، على أنَّه "تحوُّل الشيء (كل شيء) إلى نقيضه (في الخواص والصفات..)" لما فسَّرنا هذا "الفرق الجوهري" بين "المادة الحيَّة" و"المادة غير الحيَّة" في تلك الطريقة الميتافيزيقية. إنَّ "التضاد" في الخواص والصفات بين شيئين هو خير دليل على أنَّ كلاهما ينبثق مِنَ الآخر، ويتحوَّل إليه، فـ "المادة غير الحيَّة" يمكن ويجب أنْ تتحوَّل إلى نقيضها (في الخواص والصفات) وهو "المادة الحيَّة". بين "الشيء" و"نقيضه" هوَّة، وهوَّة سحيقة. وهذه الهوَّة، كما كل هوَّة، لا يمكن اجتيازها إلا بـ "قفزة واحدة لا غير". وهذه "القفزة"، في التطور في العالم المادي، هي "الطفرة (أو القفزة) النوعية".. هي "التحوُّل النوعي". وهذا "التحوَّل النوعي" إنَّما هو "تحوُّل الشيء إلى نقيضه". لدينا "مادة" تتألَّف مِنْ مقادير مِنْ غازي الأوكسجين والهيدروجين. أُنْظروا إلى خصائص هذا "الخليط المادي". إنَّه خليط مِنْ مواد قابلة للاشتعال. الآن، تهيأت "أسباب" تحوُّل هذا الشيء (أي الخليط الغازي) إلى نقيضه، وهو "مُركَّب الماء". أُنْظروا إلى هذا "النقيض". إنَّه شيء لا يشتعل، غير قابل للاشتعال، وفي مقدوره أنْ يُطفئ النار. أليس بين هذا الشيء ونقيضه "هوَّة سحيقة"؟! أليس بينهما هذا التضاد الجليِّ في الخواص والصفات؟! أليس هذا التضاد مُماثِلٌ، نسبياً، لذاك التضاد بين "المادة الحيَّة" و"المادة غير الحيَّة"؟!
مثال آخر هو "الفوتون". فهذا الجسيم ليس له شحنة كهربائية، ولكنَّه هو "واسطة نقل" القوى الكهرومغناطيسية!
في منطق التطور، يمكن (ويجب إذا ما اجتمعت وتهيأت الأسباب الطبيعية) أنْ تتحوَّل "المادة غير الحيَّة"، أي جزء مِنْ هذه المادة، إلى "نقيضها (في الخواص والصفات)". فما هو هذا "النقيض" إذا لم يكن "المادة الحيَّة"؟! "المادة"، في خاصِّية مِن خواصِّها الجوهرية، يجب أنْ تكون "مُرَكَّبَة"، فليس مِنْ شيء، ليس مِنْ جسم أو جسيم، لا مُكوِّنات له. كل شيء "مُرَكَّب". كل شيء له "مكوِّنات". وعندما نتحدَّث عن "مكوِّنات" شيء ما يجب أنْ نتذكَّر، على الدوام، حقيقة في منتهى الأهمية، هي أنَّ "بعضاً مِنْ هذه المكوِّنات" لم نكتشفه، ولم نعرفه، بَعْد، فنحن، مثلاً، لم نكتشف، ولم نعرف، حتى الآن، إلا بعضاً مِنْ مكوِّنات الذرَّة، وثمَّة حقيقة أُخرى لا تقل أهمية، وينبغي لنا أنْ نتمثَّلها، وإلا نضرب صفحاً عنها. وهذه الحقيقة هي أنَّ "خواص المركَّب"، وكل شيء "مركَّب"، تختلف، دائماً، عن "خواص مكوِّناته"، فـ "خواص مركَّب الماء"، مثلاً، تختلف عن "خواص مكوِّناته" مِنْ غازي الأوكسجين والهيدروجين. إنَّ "المكوِّنات"، بخواصِّها المختلفة، تتفاعَل وتتَّحِد، لتَخْلِق "مركَّباً"، تختلف خواصُّه، تماماً، عن خواص مكوِّناته. وغني عن البيان أنَّ خواص المركَّب ليست حاصل جَمْعٍ لخواص مكوِّناته، فجَمْعُ خواص الأوكسجين والهيدروجين لا يعطينا خواص مركَّب الماء. هذا هو، على وجه الدِّقة، "منطق التفاعُل"، فـ "التفاعُل" إنَّما هو القوَّة التي بها تُخْلَق "مركَّبات مادية"، لها خواص مختلفة تماماً عن خواص مكوِّناتها. وهذا "الاختلاف" يُظْهِر وجود ما يشبه "الهوَّة السحيقة" في الخواص النوعية بين "المركَّب" و"مكوِّناته". "المادة الحيَّة" هي، أيضاً، "مركَّب مادي"، لا بد مِنْ أنْ يَظْهر فيه ما يشبه تلك "الهوَّة" بينه وبين مكوِّناته مِنْ كربون وأوكسجين وفسفور.. فمِنْ كل هذه العناصر أو المكوِّنات المادية غير الحيَّة يَنْتُج، عبر تفاعُلها، "مادة حيَّة". إنَّ "الهوَّة السحيقة"، في "الخواص النوعية"، بين "المادة الحيَّة" و"مكوِّناتها مِنَ المادة غير الحيَّة" هي ذاتها، مِنْ حيث المبدأ، التي نراها، دائماً، بين كل "مركَّب مادي" و"مكوِّناته". وفي "الخواص"، بقي أنْ نقول إنَّ بين "الشيء" و"خواصِّه" وحدة عضوية لا انفصام فيها، فـ "المادة الحيَّة" لا تُوجَد إلا ومعها، وفيها، خواصُّها الجوهرية. جَرِّد "المغناطيس" مِنْ "خواصِّه الجوهرية"، فهل يبقى مِنْ وجود للمغناطيس ذاته؟! كذلك يكفي أنْ تُجرِّد "المادة الحيَّة" مِنْ خواصِّها الجوهرية حتى لا يبقى مِنْ وجود لهذه المادة. في الاختلاف النوعي في الخواص بين مركَّب الماء ومكوِّناته ما قد يحملنا على الاعتقاد بأنَّ الماء لا يمكن أنْ يكون قد جاء مِنْ غازي الأوكسجين والهيدروجين. وعليه، نتصوَّر أنَّ الماء الذي لا أثر فيه لخواصِّه الجوهرية هو الذي خُلِقَ أوَّلاً مِنْ هذين الغازين، ثمَّ قامت "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" بإدخال هذه الخواص في ذلك الماء!

النظرة الـ "لا تاريخية"

بعد ذلك، أي عندما تَعْجَز "حُججهم" عن الإقناع، يتحدُّونكَ على أنْ "تَخْلِقَ" إنسان في مختبر! في الردِّ نقول إنَّ "خَلْقَ" أي شيء (خَلَقَهُ التطور الطبيعي) في المختبر يستلزم، أوَّلاً، أنْ نستجمع، في المختبر، كل الأسباب الطبيعية والفيزيائية التي "خَلَقَت" ذلك الشيء (في الطبيعة). وقَبْلَ، ومِنْ أجل، استجماعها، ينبغي لنا أنْ "نعرفها جيِّداً". على أنَّ الأهم أنْ ننظر إلى "الشيء" ونفهمه على أنَّه "ظاهرة تاريخية"، أي أنَّه ثمرة تطور طبيعي استغرق مِنَ الزمن ما استغرق، فكان له "ماضٍ"، ولسوف يكون له "مستقبل". وهذا الشيء، في حاضره، ليس هو ذاته في ماضيه، فـ "الإنسان" الآن ليس هو الإنسان قبل مئات الآلاف (أو الملايين) مِنَ السنين. الإنسان لم يُخْلَق كما يُخْلَقُ "المنزل" حتى نَخْلِقَهُ في المختبر، أو كما نَخْلِق المنزل. إنَّه، في خواصِّه وصفاته التي هو فيها الآن، ثمرة تطور طبيعي استغرق ملايين السنين، فإذا كان "الشيء"، أي شيء، يمكن أنْ ينشأ ويتطور في غير بيئته الطبيعية، وفي غير زمانه ومكانه، فإنَّ خَلْقَهُ في المختبر يصبح ممكناً! إنَّ عجز الإنسان عن أنْ يَخْلِق ما خَلَقَهُ التطور الطبيعي عبر ملايين ومليارات السنين لا يُبرِّر، ويجب إلا يُبرِّر، الاعتقاد بالمعجزات. ردَّاً على ذلك، قد يقولون إنَّ الإنسان يستطيع أنْ "يَخْلِق" في المختبر "مُركَّب الماء" مثلاً. هذا صحيح، فالإنسان لديه مِنَ العِلْم والمعرفة، ومِنَ الوسائل والأدوات والأساليب والتكنولوجيا، ما يسمح له بتحويل مقادير مِنْ غازي الأوكسجين والهيدروجين إلى مقدار مِنَ الماء، الذي هو ثمرة تطور طبيعي استغرق ملايين ومليارات السنين. ولو امتلكَ الإنسان مِنَ العِلْم والمعرفة، ومن الوسائل والأدوات والتكنولوجيا، ما يسمح له بتحويل "مقادير معيَّنة" مِنْ "مواد (غير حيَّة) معيَّنة" إلى "مادة حيَّة" لفعل ذلك. ولكن هذا الكائن الحي المسمَّى "الإنسان" لم يأتِ، أو يتطور، مباشَرة مِنْ "مادة حيَّة بدائية مجهرية" حتى يتحدُّونا على خَلْقِهِ في المختبر! لقد تطوَّر منها، أو مِنْ شبيه لها، ولكن عبر ملايين السنين. وهذه "المادة الحيَّة البدائية المجهرية" اجتازت مراحل عديدة مِنَ التطور قبل أنْ يصبح ممكناً ظهور الإنسان، الذي تطوَّر مباشَرة مِنْ كائن حيواني محدَّد. ثمَّ أنَّ تطور هذه المادة الحيَّة في اتِّجاه محدَّد قد خضع لتأثير عوامل طبيعية أرضية وكونية، ينبغي لنا إلا نضرب عنها صفحاً.

"الصنعة" و"الصانع"

بقي مِن حُجج "الْخَلْق الميتافيزيقي" حُجَّة "الصَنْعَة والصانع"، التي، في جوهرها أو عمقها الفلسفي، تقوم على فكرة أنَّ "اللا مادي"، أي هذا الذي مِنْ "ماهيَّة الفكر (أو الوعي)"، هو "الخالق"، دائماً، لـ "المادي"، أو "المادة".هذه "الفكرة" إنَّما جاءت مِنْ تجربة البشر في "الخَلْق"، فـ "اللا مادي" في الإنسان، أي "الوعي"، وغيره مِنْ صُوَر "المثالي" فيه، هو الذي "يَخْلِق" الأشياء ضمن، وعَبْرَ، "المجتمع البشري"، فهذا "المنزل"، مثلاً، كان قَبْلَ "خَلْقِه" كامناً في عقل (وإرادة) الإنسان، أي كان "صُورة مثالية". بحسب هذه التجربة البشرية في "الخَلْق"، وُجِدَت، أوَّلاً، "فكرة المنزل"، ثمَّ "خُلِقَ" المنزل على مثالها، فلولا عقل الإنسان وإرادته لما وُجِدَ هذا المنزل. وهكذا فهموا "خَلْق الكون"، أو "العالم المادي"، كما فهموا "خَلْق منزل"، فقوَّة مِنْ طبيعة "لا مادية" هي التي "تَخْلِق" كل ما هو "مادي". ولدحض هذه "الفكرة" لا نحتاج إلى أنْ نخرج مِنَ التجربة ذاتها، ففيها كل الأدلَّة على أنَّ المادة لا تُخْلَق مِنَ العدم، وعلى أنَّ هذا العنصر "اللا مادي"، كالعقل والإرادة، لا يستطيع، في حدِّ ذاته، أنْ "يَخْلِق" أي شيء، فهو، بخضوعه وتبعيته لـ "القوانين الموضوعية" في العالم المادي، وبمعونة "المادة" و"قواها"، "يَخْلِق" الأشياء، أي أنَّه يقوم بأعمال مِنْ قبيل "التركيب"، و"التفكيك"، و"التحويل".. قُلْنا إنَّ فكرة "الصَنْعَة والصانع"، التي مؤدَّاها أنَّ لـ "كلِّ صَنْعَة صانعاً"، قد جاءت مِن "التجربة البشرية" في "الخَلْق"، أي في صُنْع الأشياء، كصُنْع "النجَّار" لـ "طاولة"، مثلاً. وأهمية هذه الفكرة في تشويه طريقة التفكير تشويهاً ميتافيزيقياً تكمن في كونها تُقْنِع الذهن البشري، في طريقة ساذجة، بـ "وجود الدليل" على "وجود القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة للكون"، فهُم في ذلك يقولون إنَّ "النسيج" يدلُّ على "النساج"، و"الرسم" على "الرسام"، و"النقش" على النقاش"، و"الطاولة" على "النجار".
الإنسان هو "حيوان صانع للأدوات". وهو الحيوان الوحيد الذي يصنع "أدوات". إنَّه، وبمعونة "قوى طبيعية مختلفة"، ومنها قواه الجسدية.. يده، مثلاً، وفي المقام الأوَّل، يصنع مِنْ "مواد الطبيعة المختلفة" أشياء مختلفة (المنزل مثلاً). هذا "الصُنْعُ"، أو "الخَلْقُ"، إنَّما يتمُّ في طريقة لا تدع مجالاً للشكِّ في أنَّ "المادة" لا تُخْلَق مِنَ "العدم"، ولا تفنى، أي لا "تتحوَّل" إلى "عدم"، وإنَّما تتحوَّل مِنْ شكل إلى آخر. الإنسان جزء مِنْ تلك "القوى الطبيعية"، التي بـ "تفاعله" معها تُخْلَق "الطاولة"، وغيرها. أمَّا ما "يَخْلِقُ" الكواكب والنجوم والمجرَّات والذرَّات والجزيئات والبروتونات والإلكترونات.. فهو "قوى الطبيعة"، التي ليس مِنْ بينها "الإنسان وقواه". بـ "تفاعُل" القوى الطبيعية تتحوَّل "المادة" مِنْ شكل إلى آخر، أي "تُخْلَقُ" الأشياء في الكون. وكل "قوى الطبيعة" إنَّما تؤكِّد، في عملها، وجود "القوَّة المادية السرمدية"، التي تقوم بـ "تركيز" أو "تشتيت" المادة. إنَّ "التفاعُل" بين مكوِّنات وقوى "السحابة الهيدروجينية" هو الذي يَخْلِقُ "النجم". وإنَّ "تفاعُلاً" بين مكوِّنات وقوى طبيعية أُخرى، من بينها الإنسان وقواه، هو الذي يَخْلِق "الطاولة الخشبية". والدماغ أو المخُّ البشري هو "المادة" التي بقواها يتفاعل الإنسان مع الطبيعة، تفاعُلاً مُنْتِجاً لأشياء كثيرة.

المادة" في "جوهرها الروحي"!

القائلون بـ "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" لا يُخالِفونكَ الرأي في أنَّ الدماغ البشري هو "مادة"، ولكنَّهم يفهمونه، كما يفهمون "المادة" في وجه عام، أي أنَّهم ينظرون إليه على أنَّه "مادة خاملة"، لا يمكنها أنْ تقوم، تلقائياً أو مِنْ تلقاء نفسها، بالعمل الذي تقوم به، فهي ليست سوى "أداة مادية" في "يد لا مادية خفيَّة"، اسمها "الروح"، فالدماغ البشري ليس أكثر من "قفاز" تلبسه هذه اليد! "الروح" هي التي تأمر هذه "المادة"، أي الدماغ البشري، فتُطيع وتُنفِّذ. تقول لها إفعلي هذا فتفعل، ولا تفعلي هذا فلا تفعل! فإذا أنا عطِشْتُ، فشربتُ الماء، فإنَّ عملي هذا هو نتيجة "أمر" أصدَرَتْهُ "الروح"، التي اتَّخذت "الدماغ" وسيلة مادية لنقل "الأمر" إليَّ، فنَفَّذْتُهُ إذ تناولتُ كأس الماء وشربت! الدماغ البشري، في تصوُّرهم هذا، إنَّما هو "مادة" عاجزة عجزاً مطلقاً عن أنْ تقوم بما تقوم به مِنْ عمل ونشاط مِنْ دون ذلك "الأمر" الذي يجيئها مِنْ تلك "القوَّة اللا مادية الخفيَّة" التي اسمها "الروح". وهذا "العجز" إنَّما هو "الخاصِّية الجوهرية" لكل "مادة"، وليس لمادة الدماغ البشري فحسب، فلولا "روح أُخرى"، ولولا "الأمر" الذي تُصْدِر، لما كانت المعادن، مثلاً، تتمدَّد بالحرارة، فهناك "أمرٌ روحاني"، عملاً به، استطاعت "الحرارة" أنْ تكون "قوَّةً" يتمدَّد بها "المعدن"، الذي بامتثاله لـ "أمر روحاني" آخر تمدَّد إذ ارتفعت درجة حرارته! هذا "النظام مِنَ الأوامر الروحانية"، الذي وِفْقه تعمل الطبيعة، إنَّما هو "قانون السببية" الذي خلقته "الروح"، أو تلك "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة للكون"، ثمَّ "غَرَسَتْهُ" في الطبيعة، في الكواكب والنجوم والمجرَّات والذرَّات والجزيئات والجسيمات.. وإذ "غَرَسَتْهُ" دبَّت الحياة في الطبيعة، فامتلكَ كل شيء خواصَّه وقواه، وشرع يؤثِّر ويتأثَّر بغيره مِنَ الأشياء. بفضل هذا "الإدخال" لـ "قانون السببية"، بعد خلْقِه، في الطبيعة صار ممكناً، مثلاً، أنْ يرتفع الحجر الذي قذفناه في الهواء، فيسقط بعد حين. صار متعذَّراً، مثلاً، أنْ يبقى هذا الحجر معلَّقاً، إلى الأبد، في الهواء! كل "الخواص" و"القوى" في الطبيعة، والتي هي جزء لا يتجزأ منها، إنَّما أُدْخِلتْ فيها ادْخالا، فـ "الروح" خَلَقَت "قانون السببية"، ثمَّ قامت بادخاله في الطبيعة، أو المادة. لقد انتقلوا، في تفكيرهم غير السوي، مِن "التصوُّر المستحيل" إلى "التعليل الميتافيزيقي". هُمْ، أوَّلاً، تصوَّروا "المادة" على أنَّها "شيء" عديم الخواص، والقوى، والقوانين. وهذا هو "التصوُّر المستحيل"، فكيف لي، مثلاً، أنْ أتصوَّر "وجود الشمس" قبل أنْ تُدْخِلَ فيها "الروح" الجاذبية، وقبل أنْ "تأمر" الروح نوى ذرَّات الهيدروحين، في الشمس، بأنْ تتفاعَل في طريقة تسمح بتكوُّن نوى ذرَّات الهيليوم، مع "حرارة" و"ضوء"؟! كيف لي أنْ أتصوَّر وجود الإلكترون قبل أنْ يأتيه "أمر" الروح بالدوران حول النواة في الذرَّة؟! كيف لي أنْ أتصوَّر وجود مادة المغناطيس قبل أنْ يُجْعَل قطباها المتماثلان يتنافران؟! كيف لي أنْ أتصوَّر وجود مادة سائلة لم يُدْخَل فيها بَعْد "القانون" الذي اكتشفه آرخميدس؟! كيف لي أنْ أتصوَّر وجود شيء لا خواصَّ له، ولا قوى فيه؟! هذه هي "المقدِّمة" في كل منطقهم. إنَّها مقدِّمة يقولون فيها: أوَّلاً، خُلِقَت "المادة" من "العدم"، الذي ليس في الطبيعة ما يدعو إلى افتراضه. وهذه "المادة" كانت عديمة الخواص والقوى والقوانين والنظام.. ثمَّ قامت "الروح"، أو "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" بخلق الخواص والقوى والقوانين والنظام.. ثمَّ قامت بإدخال كل هذه المخلوقات في ذاك المخلوق البدائي، أي "المادة". وهكذا قادهم ذاك "التصوُّر المستحيل" إلى هذا "التعليل أو التفسير الميتافيزيقي"! أُنْظروا إلى أرسطو كيف شقَّ لهم طريقاً فلسفياً إلى "السبب الميتافيزيقي الأوَّل"، أو "العلَّة الأولى". قال أرسطو: الكرسي جاء مِنَ الخشب، والخشب جاء مِنَ الشجرة، والشجرة جاءت مِنَ.. رأى أرسطو أنْ لا نهاية لهذه "السلسلة" في الطبيعة، فأنهى البحث قائلاً بـ "ضرورة" أنْ ينتهي هذا "التسلسل" إلى "السبب الأوَّل"، أي السبب الذي لا سبب له، وإلى "المحرِّك الأوَّل"، أي المحرِّك الذي لا محرِّك له. في سعيهم لتأكيد "الضرورة" التي أدْخَلَتْها "الروح"، أو "الروح العليا"، في الطبيعة والمادة يشنون حرباً لا هوادة فيها على "المصادفة"، التي هي، أيضاً، يفهمونها في طريقة ميتافيزيقية، فيقولون وكأنَّهم يأتون بحُجَّة مفحمة: لو ألْقَيْنا "حروف مطبعة" في الهواء، فلن تتمكَّن "قوَّة المصادفة" مِنْ تحويل هذه الحروف المبعثرة إلى قصيدة لشكسبير، فقبل أنْ تتحوَّل الحروف إلى قصيدة، ومِنْ أجل أنْ تتحوَّل، لا بدَّ مِنْ شاعر يقوم بهذا العمل. في هذه الطريقة يفهمون "المادة" و"القوى" العاملة فيها، فالطبيعة، من حيث عجزها وقصورها الذاتيين، كحروف المطبعة التي ألْقَيْناها في الهواء، فعجزت عن التحوُّل، من تلقاء نفسها، إلى قصيدة لشكسبير. وليس في مقدور "قوى المصادفة" أنْ تقوم بما عجزت عن القيام به تلك الحروف. هذا "العجز الثنائي" هو عجز مطلق، ولا حلَّ لمشكلته إلا بـ "الشاعر"، أي بـ "الروح العليا"، التي تُحوِّل "حروف المادة" إلى "قصائد"، أي إلى أشياء ذات خواص وقوى! إذا عجز الإنسان عن "خلق شمس" سيقول: إذا أنا الذي لديَّ الروح عجزتُ، فهل في مقدور "الطبيعة" أنْ تَخْلِق مِنْ تلقاء نفسها "شمساً"؟! جوابه: كلا، ليس في مقدورها! بعد هذا الجواب عن ذاك السؤال الفاسد، يقول مقرِّراً: لا بدَّ مِنْ "روح عليا" تَخْلِق "الشمس".. وكل الكون!

الروح

في الدين، "الروح" حقيقة لا ريب فيها، ولكن لا البشر، ولا حتى الأنبياء منهم، يعرفون، أو في مقدورهم أنْ يعرفوا، "ما هي الروح"، أي "ماهيتها"، فهي مِنْ أمر الخالِق وحده، أي أنَّ معرفتها ليست مِنَ المعارف التي يَسمح الخالِق للبشر بالوصول إليها. على أنَّ إدراج "الروح" في عداد "الأسرار الإلهية" لم يحُل بين البشر وبين "السعي المعرفي" في تمييز "الكائن الذي فيه روح" مِنَ "الكائن الذي لا روح فيه"، أو الذي كانت فيه، ثمَّ غادرته. فـ "الكائن الذي فيه روح" يجب أنْ يكون "كائناً حيَّاً"، ولكنَّهم لم ينتهوا، في سعيهم هذا، إلى "القول الفصل"، الذي فيه يقرِّون بوجود "الروح" في "كلِّ" كائن حي، أكان مِنَ "النبات" أم مِنَ "الحيوان"، فالقائلون بـ "الروح" في "الإنسان" لم يقولوا بوجودها في سائر الكائنات الحيَّة ، حتى "الجنين البشري" لا "تُوضَع" فيه "الروح"، بحسب بعض وجهات النظر الدينية، إلا بعد استنفاده "مرحلة ما قبل الروح" مِنْ تطوره في رحم أُمِّه. إنَّ القائلين بوجود "الروح" لا يجرؤون على القول بوجودها في الكائنات الحيَّة الأقل تطوراً مِنَ البشر، فـ "الخالِق" بدأ خَلْقِه لـ "البشر" بخَلْق "الرجُل الأوَّل" مِنْ "طين"، ثمَّ "نَفَخَ فيه مِنْ روحه"، فتحوَّل مِنْ "جماد" إلى "كائن حي". أمَّا "المرأة الأولى" فلم تُخْلَق كما خُلِق "الرجل الأوَّل". وبعد خَلْق "الرجل الأوَّل" و"المرأة الأولى"، بدأ التكاثر البشري، ولكنَّ "الروح" لا "يضعها" الخالِق في الجنين البشري إلا بعد انقضاء مرحلة، أو مراحل، مِنْ تطوره في رحم أُمِّه. وهكذا يتألَّف "الإنسان" مِن عنصرين: عنصر مادي (طيني) وعنصر روحي. وهذا "العنصر الروحي" إنَّما أدْخَلَهُ "الخالِق" في "التمثال الطيني" إذ "نَفَخَ فيه مِنْ روحه"، أي مِنْ روح الخالِق ذاته، فشيء مِنْ "معدن" الخالِق دَخَلَ في "تكوين الإنسان"، فدبَّت "الحياة" في "الكائن الطيني". ولكن، هل في الطريقة ذاتها دبَّت الحياة في سائر الكائنات الحيَّة.. في "الأميبا"، و"البعوضة"، و"النملة"، و"السمكة"، و"الخلية النباتية"، مثلاً؟! مَنْ قال بوجود "الروح" في الإنسان إنَّما قال بذلك لاعتقاده بأنَّ الإنسان لا يمتُّ بصلة إلى غيره مِنَ الكائنات الحيَّة.
في "حواره مع صديقه المُلحِد"، يُميِّز مصطفى محمود "الروح" في الإنسان ممَّا يسمِّيه "النفس الحيوانية"، فيقول: "الإنسان له طبيعتان، الأولى مادية، تشمل الجسد، وطائفة مِنَ الانفعالات والعواطف والغرائز، وغير ذلك مِنْ مكوِّنات نفسه الحيوانية. أمَّا الثانية فروحيَّة. إنَّها الروح التي تشمل العقل، والضمير، والحسِّ الجمالي، والحسِّ الأخلاقي، وغير ذلك مِنَ الأنا أو الذات. والجسد، في علاقته بالروح، تابع وليس متبوعاً، مأمور وليس آمراً. الجسد هو الوجود الثانوي، والدليل على ذلك هو أنَّ شخصية الإنسان لا تتغيَّر إذا ما بُتِرت يده أو ساقه، أو إذا ما زُرِعت فيه كلية، فالإنسان ليس هذه الأعضاء، وإنَّما هو الروح التي تُدير الجسد بأعضائه كافة. والمخ ليس أكثر مِنْ قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها الروح. الموت إنَّما يُدْرِكُ الطبيعة الثانوية الزائلة، أي الجسد. أمَّا الطبيعة الجوهرية الحاكمة، أي الروح، فتخلد خلود عالمها الذي إليه تنتقل مِنَ الجسد عند الموت". وفي "تحضير الأرواح" يقول: "تحضيرها أمرٌ مشكوك فيه، فالذي يحضر في جلسات تحضير الأرواح ليس الروح وإنَّما القرين، الذي هو الجن الذي كان في صحبة الإنسان قبل موته. وهو بفضل هذه الصحبة يعرف أسراره. وهذا الجن يبقى بعد موت صاحبه، ويقلِّد صوته وسلوكه ليسخر مِنَ الموجودين، على عادة الجن في عدائهم للإنسان. أمَّا الأرواح البشرية فهي في عالم آخر هو عالم لبرزخ، ولا يمكن استحضارها. ولكنَّها قد تتصل بمن تحب في الحلم أو في اليقظة". وبعد كل هذا الشرح للروح وماهيتها وخواصها، يقول إنَّها لغز، وإنَّ أحداً لا يعلم عنها شيئاً، فهي مِنْ أمر الخالِق! في "الروح" يكمن، في رأي مصطفى محمود، سرُّ بقاء شخصية الإنسان على ما هي عليه على الرغم مِنْ بتر عضو مِنْ أعضائه، أو زرع عضو في جسده. لو قُطِع لسانه لقال لنا: "ألمْ أقُلْ لكم إنَّ شخصيتي لن تتغيَّر بقطع لساني، فهي مِنْ صُنْع الروح، والروح ليست لساني ولا أي عضو آخر مِنْ أعضاء جسدي؟!". أمَّا لو قُطِع رأسه فلن يقول شيئاً، ولن يسمعنا ونحن نقول له: "لقد فنيت روحكَ إذ قُطِع رأسكَ!". "الروح" قد نُقِرُّ بوجودها إذا كانت "الريح" مِنْ معانيها. و"النَفْسُ" قد نُقِرُّ بوجودها إذا كان "النَفَسُ" مِن معانيها. إنَّ "النَفَسَ" هو الريح تَدْخُل في الحيِّ ذي الرئة، وتَخْرُج منه. عند الموت، كان البشر يحاولون تمييز خواص الحيِّ مِنْ خواص الميِّت، فرأوا أنَّ "الحيَّ" يتنفس، أي تَدْخُل فيه الريح (الهواء) وتَخْرُج، مِنْ أنفه وفمه. أمَّا الموت فكان "التوقُّف عن التنفُّس" مِنْ أهم علاماته. مِنْ هذه الظاهرة، ومِن حقيقة أنَّ "الريح (أو الهواء)" ليست بالشيء المرئي، أنشأوا مفهوم "الروح"، أو "النَفْس". "الميِّت" قد نراه في المنام، نُحدِّثه ويُحدِّثنا. ومِنْ ذلك، أنشأوا مفهوم "الروح التي تبقى خالدة بعد موت صاحبها"، ومفهوم "ثنائية الجسد والروح"، فإذا كانت "الروح" لا تموت بموت صاحبها فإنَّ الجسد يفنى ويتحوَّل إلى "تراب". وكان يكفي أنْ يروا الجسد يتحوَّل، بعد الموت، إلى "تراب" حتى يقولوا بـ "خَلْق الإنسان مِن طين". وهكذا نظروا إلى الجسد على أنَّه "آلة" تقوم "الروح" بتحريكها وإدارتها كيفما شاءت. "الحياة" إنَّما هي "المادة الحيَّة". و"المادة الحيَّة" هي "امتداد"، وتَجاوز، في الوقت نفسه، لـ "المادة غير الحيَّة"، فبينهما خواص وصفات مشتركة، ولكنَّ لـ "المادة الحيَّة" مِنَ الخواص والصفات ما يميِّزها مِنَ "المادة غير الحيَّة". و"المادة الحيَّة" درجات في "سُلَّم التطور"، فالإنسان غير البعوضة على ما بينهما مِنْ صفات وخواص مشتركة. و"الوعي" إنَّما هو خاصِّية الدماغ البشري، التي تظلُّ كامنة، غير ظاهرة، حتى يستوفي "الوعي" شرطه الاجتماعي، فـ "الوعي" هو خاصِّية دماغ "الإنسان الاجتماعي" إذا كانت "الروح" هي "الوعي"، فإنَّ "الوعي" لا يُوجَد، ولا تقوم له قائمة، مِنْ دون ثلاثة أشياء: "الدماغ البشري"، و"العالم المادي الخارجي"، أي كل ما يُؤثِّر في حواسِّنا مِنْ مادة، و"المجتمع". قد يُحيِّرني مشهد "المغناطيس يَجذب إليه برادة مِنَ الحديد بقوَّة غير مرئية"، فأتصوَّر خَلْقاً لهذا المعدن (المغناطيس) مشابهاً لـ "خلق الإنسان". قد أتصوَّر أنَّ المغناطيس خُلِقَ مِنْ "معدن يخلو مِنْ خاصِّية الجذب"، ثم قامت "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" بإدخال هذه الخاصِّية فيه، فدبَّت فيه "المغناطيسية". هذا التصوُّر إنَّما ينبثق مِنْ "خَلَلٍ" في فَهْم العلاقة بين "الشيء" و"خواصِّه". إنَّ الشيء المجرَّد مِنْ خواصه لا وجود له، وإنَّ الخواص المجرَّدة مِنْ شيئها لا وجود لها، فالمغناطيس المجرَّد مِنَ المغناطيسية لا وجود له، والمغناطيسية المجرَّدة مِنَ المغناطيس لا وجود لها. لـ "المادة الحيَّة" خواصها الجوهرية التي تشترك فيها كل الكائنات الحيَّة، أكانت نباتية أم حيوانية. ولكنَّ هذا "التماثُل" في الخواص، يرتبط عضوياً بـ "الاختلاف" فيها، فالكائنات الحيَّة درجات في "سُلَّم التطور".

"أبجدية" المادة

إذا كانت العالم المادي يشبه "كلاماً"، بعضه "نثر"، وبعضه "شِعر"، فلا بدَّ مِنْ أنْ تكون له "أبجديته"، التي هي "جسيمات". وإذا كانت له "أبجدية" فلا بدَّ مِنْ أنْ ننظر إلى كل حرف منها على أنَّه "لغة" لها هي، أيضاً، "أبجديتها". ولن نصل، أبداً، إلى "الأبجدية النهائية". و"حروف المادة" ليست بـ "الحروف الميِّتة". ليست كمثل "حروف مطبعة" ألْقَيْناها في الهواء، فعجزت عن التحوُّل إلى قصيدة، وعجزت "قوى المصادفة" عن تحويلها إلى قصيدة. إنَّها "حروف" "تَجْمعها" و"تُبعثِرها" القوَّة المادية السرمدية المتأصِّلة فيها، أي "قوَّة التركيز والتشتيت". إنَّها في تفاعُل دائم، وتملك في ذاتها كل قوى التفاعُل.. كل القوى التي عبرها تتبادل التأثير. فالمادة التي لا تملك في ذاتها قوى التفاعُل لا وجود لها. والقول بـ "روح" تُدْخِلُ في المادة تلك القوى إنَّما هو "فرضية" لا حاجة لها. ليس في "العالم المادي" كله مِنْ جسم أو جسيم لا يتبادل التأثير مع غيره، أي لا يتفاعَل مع غيره، حتى "النيوترينو"، وهو جسيم متناهي في الصِغَر، سيُقيم الدليل، مستقبلاً، على أنَّه يؤثِّر ويتأثَّر بغيره مِنْ مكوِّنات المادة. يترتَّب على ذلك أنَّ الكون لا يشبه، أبداً، "حروف مطبعة" ألْقيناها في الهواء، فهذا المثال إنَّما يجعلنا ننظر إلى "المادة" على أنَّها "حروف" عاجزة عن أنْ يؤثِّر بعضها في بعض، أي عاجزة عن أنْ تتجمَّع، مِنْ تلقاء نفسها، في "كلمات"، و"عبارات"، و"جُمَل". الأجسام والجسيمات التي نراها منفصلة عن بعضها بعضاً في فضاء الكون، أو في فضاء الذرَّة، كانفصال الجُزُر في البحر، إنَّما هي في تفاعُل دائم، فعَبْرَ الفضاء الذي "يفصل" بينها، وبه، تتبادل المادة في استمرار، فليس مِنْ جسم أو جسيم إلا وفي داخله مِنَ "القوى" ما يجعله مُطْلِقاً أو مُمْتصَّاً لـ "مادة"، تحمل "التأثير المادي"، عَبْرَ الفضاء الذي "يفصله" عن غيره. وهذا "التأثير" إمَّا أنْ يشدَّه إلى غيره، فـ "تتركَّز" المادة، وإمَّا أنْ يُبْعِدَه عن غيره، فـ "تتشتت" المادة". وفي هذه "الجدلية الدائمة" مِنْ "تركُّز" و"تشتُت" المادة، تتحوَّل "حروف" المادة" إلى "كلمات"، و"عبارات"، و"جُمَل"، أو تتفكَّك وتنحل "الكلمات"، و"العبارات"، و"الجُمَل"، متحوِّلةً، بالتالي، إلى "حروف"، أي إلى "البسيط" مِنَ "المادة"، ولكن ليس بالمعنى الميتافيزيقي لـ "البسيط"، فكل "بسيط" يشتمل على "المُركَّب"، وكل "مُركَّب" يشتمل على "البسيط". وتبادُل التأثير، أو التفاعُل"، بين "حروف" المادة ليس دائماً بـ "المحسوس"، أو "الملحوظ". على أنَّ ذلك يجب ألا يحملنا على الاعتقاد بأنَّ التأثير المتبادل "معدوم"، فـ "غير المحسوس"، أو "غير الملحوظ"، مِنَ التفاعُل، هو، أيضاً، تفاعُل. و"خواص" الجسم أو الجسيم إنَّما "يَظهر بعضها"، أو "يختفي"، بحسب بيئته الطبيعية (الفيزيائية). فبعض خواصِّه تَظهر في بيئة، ولكنَّها تختفي في بيئة أُخرى، فهناك، مثلاً، اختلاف في الخواص بين "النيوترون الحر" و"النيوترون في داخل نواة الذرَّة". ويختلف التفاعُل (في قواه وتأثيراته ونتائجه) بين جسمين أو جسيمين بحسب اختلاف "المسافة الفضائية" الفاصلة بينهما، ففي "مسافة فضائية محدَّدة" تفصل بين "بروتونين" تنشط "القوَّة النووية الشديدة"، فإذا زادت هذه المسافة واتَّسعت تلاشى تأثير هذه القوَّة. ولكن هذا التلاشي لا يعني أنَّ هذين البروتونين قد توقَّفا عن التفاعُل وتبادُل التأثير، فضمن "المسافة الجديدة" لا بدَّ لقوى أُخرى مِنْ أنْ تنشط. وهكذا نفهم الطبيعة على أنَّها العلاقة الجدلية الدائمة بين "الخالِق (الطبيعي)" و"المخلوق (الطبيعي)"، ففي الطبيعة، كلُّ خالِق مخلوق، وكل مخلوق خالِق. ليس في الوجود كله ما يصلح دليلاً على أنَّ "المادة" قد جاءت مِنَ "العدم"، ولا بدَّ لها مِنْ أنْ تعود إليه. وهذا يعني أنَّ "الوجود" ليس دليلاً على وجود، أو على ضرورة وجود، "المُوجِد الميتافيزيقي". لو أنَّنا رأينا في "زوال" الشيء ما يؤكِّد "معنى العدم" في هذا "الزوال"، لسلَّمْنا بأنَّ هذا الذي انتقل إلى "العدم" إذ "زال" لا بدَّ له مِنْ أنْ يكون قد جاء مِنَ "العدم"، فـ "العدم"، وليس "الوجود"، هو، وحده، ما يصلح دليلاً على "المُوجِد الميتافيزيقي"، فأين هو هذا "العدم"؟! كيف لي أنْ أقول بـ "العدم" بينما "الطبيعة" تقول لي، دائماً، في "مقدِّمتها الأولى والعظمى": لا شيء يأتي مِنَ العدم، ولا شيء يذهب إليه! في الطبيعة، كل شيء خالِق ومخلوق في الوقت نفسه, وهذا الخالِق والمخلوق إنَّما هما "مادة خالصة". وعلى القائلين بوجود، أو بضرورة وجود، "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" أنْ يجيئونا بـ "العدم" دليلاً، فليس مِنْ دليلٍ سواه!

ما قَبْلَ "الْخَلْق"!

"الخَلْق" لا معنى له، ولا مبرِّر، إلا إذا فهمنا "مرحلة ما قَبْلَ الخَلْق" على النحو الآتي: كان "المُوجِد الميتافيزيقي"، أو "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة"، أو "الروح العليا السرمدية"، ولم يكن مِنْ وجود لـ "المادة". فكيف خُلِقَت، أو وُجِدت "المادة"؟ في كيفية مِنْ كيفيتين: أنْ "يتحوَّل" هذا "المثالي" ذاته، وبذاته، إلى "مادة". وهذا "التحوُّل" لا تُجيزه "الخاصِّية الجوهرية" لهذا "المثالي". والكيفية الثانية هي أنْ يَخْلِق هذا المثالي المادة مِنَ العدم.
وهكذا ينبغي لنا، قَبْل، ومِنْ أجل، القول بضرورة وجود "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" أنْ نُثْبِتَ أنَّ "المادة" قد جاءت، أو يمكن أنْ تجيء، مِنَ "العدم"، فمِنْ أجل ذاك "القول" لا بدَّ مِنْ هذا "الإثبات"! الإنسان قد يكون هو "المُنْتَج المادي" الأكثر تطوراً ورقيَّاً، إذ فيه (وربَّما فيه وحده) وَعَت المادة ذاتها. ولكن هذا التطور والرقي لا يعني، ويجب ألا يعني، أنَّ في مقدور هذا الكائن المادي أنْ يَخْلِق كل شيء خَلَقَتْهُ، وتَخْلِقَهُ، "قوى الطبيعة"، فهو، على تطوُّره ورقيِّه، لن يتمكَّن، مثلاً، مِنْ أنْ يَخْلِق "نجماً"، أو "مجرَّة"، أو يُخْرِج كوكب "المشتري" عن مداره حول الشمس. هذا "الكائن المادي" الأكثر تطوراً ورقيَّاً لا يستطيع أنْ يأتي بما تأتي به كائنات مادية أقل منه تطوراً ورقيَّاً كالنجوم والمجرَّات والثقوب السوداء.. غير أنَّ هذا "العجز الإنساني الطبيعي" لا يدعو، ويجب ألا يدعو، إلى اتِّخاذه دليلاً على وجود، أو على ضرورة وجود، "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة". هناك شيء واحد تقوله "المادة"، دائماً، لـ "العقل".. إنَّها تقول له: إعْمَل بحسب تعليماتي (أي بحسب "القوانين الموضوعية") إذا ما أَرَدْتَ النجاح! وهي في قولها هذا إنَّما تُخاطِب ذاتها؛ لأنَّها تُخاطِب "الدماغ" في الكائن البشري (الاجتماعي) الحي. فهذا "الدماغ" إنَّما هو جزء منها. و"المادة" بفضل هذا "الجزء" تعي ذاتها، وكأنَّ "الدرجة العليا في تطور المادة" هي أنْ تأتي "المادة"، أخيراً، بهذا "الشيء"، أي "الدماغ البشري"، الذي عَبْره تعي ذاتها.
في العقل (البشري) تنشأ وتتطور "الصُوَر المثالية"، وليس مِنْ "صورة"، أي ليس مِنْ "فكرة"، إلا ولها "أصل مادي"، فـ "الشيء" الذي لا وجود له البتَّة في "العالم المادي" يستحيل أنْ تُوجَد له "صورة" في العقل، الذي مهما أبدع مِنْ "صُوَر مثالية" فإنَّه لن يقدر أبداً أنْ يُبدع "صورة مثالية" لا أصل لها، أو لـ "عناصرها"، في "الواقع المادي". إنَّكَ، ومهما أُوتيتَ مِنْ خصب وسعة الخيال، لن تستطيع أبداً تَخَيُّل أو تَصَوُّر "العدم"؛ لأنَّ "العدم" ليس بالشيء الذي له وجود في "العالم المادي". وهذا ما يُفسِّر انتفاء "معنى العدم" في كل النظريات والتصوُّرات التي تحدَّثوا فيها عن "العدم"، فما مِنْ "عدم" تحدَّثوا عنه إلا وتضمَّن شيئاً مِنْ "معنى المادة"! ليس في كل الوجود مِنْ وجود إلا لـ "المادة"، التي في جزء منها، في منتهى الضآلة، ولكن في منتهى التطور والرقي، امتلكتْ خاصِّية "التفكير"، أي خاصِّية تصوير العالم المادي بصور ليست مادِّية في ماهيتها. ولمَّا كانت "المادة" هي "المطلق" فإنَّكَ لا تستطيع أنْ "تُعَرِّفها" كما تُعرِّفَ كل شيء، فمِنْ مقوِّمات "التعريف" أنْ تَنْسِبَ "الخاص" إلى "العام"، فـ "الأوكسجين"، في تعريفه، هو "غاز"، و"شجرة البرتقال"، في تعريفها، هي "نبات"، و"الشمس"، في تعريفها، هي "نجم".. تعريف "الفرد" إنَّما يبدأ بذِكْر "العائلة" التي ينتمي إليها، فإدراج "الخاص" في "العام" هو المبتدأ في كل "تعريف". في غير هذا المعنى لـ "التعريف" يمكننا وينبغي لنا تعريف "المادة"، فيزيائياً وفلسفياً. وهذا "التعريف" الشاذ عن كل تعريف إنَّما هو اكتشاف ومعرفة مزيد مِنَ "الخواص الجوهرية" لـ "المادة"، ومزيد مِنْ "تركيبها".