لغة قريش

فصاحة قريش :

قبيل منتصف القرن الخامس للميلاد، كان ملوك كنده قد جمعوا كلمة القبائل المعدية، وهو زمن نهضة الشعر الجاهلى وبلوغه المقام الأسمى ، وكانت تلك القبائل موطن جل شعراء هذه النهضة ، ومن إحدى لهجات نجد تميزت لهجة ، تطورت على يد الكنديين فى مملكتهم وتسيدت باقى اللهجات، وبعد أن تسامت عن العيوب ونقحت سميت العربية الفصحى.

لقب الفصحى ينم عن مدى التبجيل لهذه اللهجة التى رأى متحدثوا العربية حينها أنها تمثل السيادة، كما يمثلها أبناء الحارث الكندي الذين صيرهم أبوهم ملوكاً للقبائل ؛ وهو طبيعي أن تسود لهجة الأسياد ويتمثلها الصفوة من باقى العرب ، وكما يمثل أمرؤ القيس بمعلقته الرائعة قمة تهذب هذه اللهجة وفتوة اللسان العربي.

إلا أن أنفة حجر والد أمرئ القيس من شعر أبنه لدرجة طرده( وحجر هذا كان قد حبس شاعر مفوه أخرهو عبيد ابن الأبرص)، وهومثال على موقف آواخر السادة الكنديين الذين كان أسلافهم يحاولون التسيد على الجزيرة العربية - مماجعل القوة الناعمة تنتقل بسهولة لسوق عكاظ المفتوح الذى تلقى الشعراء بالحفاوة.

كان لتعليق ثرياتهم الشعرية لتنير ظلمة جوف الكعبة، ولتفتق ألسنة الكهان بمسجوعات طلسمية أكبر الأثر فى تكريس لسيطرة القوى الغيبية باستخدام سلاح نافذ يتسم بالحلاوة والطلاوة ورغد المعاني كما يحظى بجمهور كبير يكاد يكون كل قاطنى جزيرة العرب.

ليس من الغريب ألا نجد لقريش فى هذا الزخم مايذكر من منتجات هذه اللغة ، إلا القليل النادر( مثل معلقة أبى طالب) ، بينما معظم فطاحل اللغة من غير قريش، وذلك لأن مانسب إلى قريش من فصاحة مزعومة كان بفعل سيطرة المسلمين المنتصريين فى الحرب والدين كلايهما، وعلى كُتَّاب التاريخ .

إلا أن كثير من الباحثين لايجدون مفر من التسليم بعد فصاحة قريش :

فيقول الفرابي : " والذين عنهم نقلت اللغة، وبهم أقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي بين قبائل العرب هم قيس، وتيم، وأسد؛ فإن هؤلاء الذين عنهم أكثر ما أخذ، ومعظمه وعليهم أُتكل فى الغريب، والإعراب ، والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم " ( المزهر فى علوم اللغة وأنواعها للسيوطي ج1 ص 211 )

ويقول سليمان البستاني: " وهو غير خاف أنه كان لقريش بصر فى الشعر فى الجاهلية ، ومع هذا فلم تكن لهم فيه مقامات عالية، ولم يرتفع شعراؤهم بطبقتهم إلى طبقة نوابغ الشعراءمن سائر القبائل لأن العرب كانت تقول لهم بالتقدم فى كل شيئ إلا الشعر " ( مقدمة الإلياذة ص112)

و( البصر ) هنا هو بصر الناقد الخبير ولايلزم فى الناقد أن يكون شاعراً ؛ كما فى واقعة تحكيم أم جندب بين أمرئ القيس وعلقمة الفحل وهى ليست بشاعرة( الشعر والشعراء لابن قتيبة ج1 ص 145-147 )

ويقول الراجحي : " والذى لاشك فيه عندنا أن سبب واحداً فقط هو الذى جعلهم يضعون لهجة قريش هذا الموضع، ذلك أن النبى قرشي؛ أما أن قريشاً لهم نحائزهم وسلائقهم التى طبعوا عليها ؛ فتلك مسألة يرفضها الدرس اللغوي الصحيح " ( فقه اللغة فى الكتب العربية ص114)

ويروى عن النبي محمد قوله : " أنا أفصح العرب ( بيد ) أني من قريش " ولايمكن أن نوافق المفسرين فى لي عنق كلمة (بيد) التى تعني ( غير/إلا) الإستثنائية ليجعلوها( من أجل ) فيصبح معنى الحديث أن سبب فصاحة محمد أنه من قريش بدلا من المعنى الأصلي أنه إستثناء فى فصاحته ، ومايؤكد مذهبنا هذا إستغراب عمر بن الخطاب وسؤاله " يارسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من أظهرنا "( المزهر فى علوم اللغة وأنواعها للسيوطي ج1 ص 35 ).

وقد كان ابن عباس مؤسس منهج تفسير معاني القرآن بالشعر الجاهلي، وله فى هذا إستشهادات - تصل الى الفان وأربعون وسبعة استشهاد - من شعراء الجاهلية ليس فيهم قرشي واحد

ويروى أحمد بن فارس بسند مرفوع الى ابن عباس أنه قال " نزل القرآن على سبعة أحرف أو قال بسبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن وهم الذين يقال لهم ( عليا هوازن ) " ( كتاب الصاحبي فى فقه اللغة وسنن العرب فى كلامها ص 8 )

وقد مضى على درب ابن عباس كثيرون جندوا أنفسهم لذلك كن أمثال:

- عبد الله بن اسحق الحضرمي ت 127 هـ

- أبو عمرو بن العلاء ت 154 هـ

- سيبويه ت 180 هـ

- الكسائي ت 189 هـ

- ابو عمر الشيباني ت 206 هـ

- الفراء ت 207 هـ

- أبو زيد الأنصاري ت 215 هـ

- الأصمعي ت 216 هـ

- أبو عبيد القاسم بن سلام ت 222 هـ

- إبن قتيبة ت 276 هـ



جميعهم قادوا حركة نشطة لجمع الشعر الجاهلي فى القرنين الثانى والثالث الهجرى، ولم يذكر عن أحدهم أستشهد بأحد من قريش فى صنف من صنوف اللغة.

نعود لابن عباس وهو من أطلق عليه معجم اللغة ، وهو قرشي من أفصح رجالات قريش يقول عن نفسه " كنت لاأدري مافاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان فى بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها - يقول: أنا إبتدأتها " ( الإتقان ج 1 ص 113 )

ويسأله سعيد بن جبير عن معنى ( وحنانا من لدنا ) فيقول " والله ماأدري ما حناناً " ( الإتقان ج1 ص 113)، ثم يجيب عنها إبن الأزرق أى أنه تعلمها بين السؤالين، وإذا اخذنا نعدد الأمثلة على ماتعامه بن عباس من غير قريش فهي كثيرة لكنها غير محصورة فى كتاب أو كتب قليلة لكن مثورة بين العديد من الكتب ( كنت قد جهزت 72 مثال ولكنى عدلت عن كتابتها لعدم الإطالة ).

إذا كان هذا حال أفصح قريش بعد الإسلام، وإنتشار التعلم فيهم، وهو من هو فى اللغة فما حال رجالها قبل الإسلام؟!.

نخلص من ذلك كله:

- أن قريش لم تكن أفصح العرب وإن كانت أقدر العرب على نقد الفصاحة .

- أن القرآن قد كتب باللغة الأدبية التى أستخدمها الشعراء والكهان من كل القبائل ، وهي غير لهجة قريش






هل استنبطت قواعد اللغة من القرآن ؟

يؤكد القرآن أنه وحي منزل بنصه من الإله الذى حمّل نفسه مهمة حفظ قرآنه لفظاً وحكماُ، ولدحض هذا لابد وأن نتعرض اولا لمسألة عصمة هذا النص، وتنزه تراكيبه عن الزلل ؛ فإذا وجدنا فيه إختلافات تنقضى عنه صفة الإلهية، وتنتفى مسألة الوحي السماوي


وقد ذكرنا فى مقال لغة قريش من الأدلة التى أكدت اختلاف لغة قريش عن اللغة الأدبية التى قيل بها الشعر، واستخدمها الشعراء والكهان، وهي اللغة العربية الفصحى. واكثرنا من ذكر أمرؤ القيس لكونه كندي وليس من قريش؛ ومع ذلك فإنه نظم شعره بالفصحى شأنه شأن جميع فطاحل الشعر. فى حين أنه لايوجد لقريش مايذكر من منتجات اللغة الفصحى.

وقد سلك ابن عباس منهج تفسير القرآن والإستشهاد على معانيه بالشعر، وهو على خط موازي مع التفسير بالمأثور عن الصحابة والتابعين، والسير على منهج ابن عباسٍ هذا هو الذى حدا بكثير من علماء اللغة الرواة فيما بعد إلى التصدى لتفسير القرآن من خلال الشعر خاصة، واللغة عامة.وهو ماهيأ لقيام حركة واسعة استهدفت جمع اللغة، وتدوين الشعر.

غير أنه انقضى القرن الأول الهجري ورواية اللغة والشعر لاتزال مشافهة ، ومادخلت فكرة إلا فى القرن الثانى الهجري وبلغت أوج عظمتها فى هذا القرن والذى يليه.

فعندما توقفت حركة الفتوح بعد أن بلغت أقصى مداها ، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ، وانضوى تحت لواء الدولة الكثير من الشعوب المختلفة الأجناس والثقافات واللغات - تمخضت هذه الحركة المتماوجة المتفاعلة - التى ترتبت على عملية الإنتقال والإستيطان المتبادل بين العرب وغيرهم لشتى الأغراض، كان لها أبلغ الأثر فى إحداث حركة جمع اللغة وتدوين الشعر.

فمن أهم ماتستمد منه اللغة بقاءها وسلامتها هو المحفوظ من ديوانها فى صدور الرواة ، والعلماء الحاذقون للغة العرب المفتون فى غريبها ، وفصحاء الأعراب كآخر معاقل اللغة الذين يرجع إليهم فى السماع منهم ولكن هذه المقومات الثلاث صارت مهددة فى القرن الثاني. ولذلك فزع أبا الأسود الدؤالى الى البادية التى كانت قبلة العلماء لتصحيح مايطرأ بالحاضرة من أخطاء وهى أيضاً من موروثات ابن عباس ، فقد كان يتعلم الكثير من الأعراب المتبدين فيقول عن نفسه " ماكنت أدرى مامعنى ( يَحُورَ ) حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حورى أى أرجعي " ( تفسير الكشاف ج1 ص 727

ففى حين جعل القرآن المفسرين أمام حشد من الغريب وكثير من الأساليب، وعديد من القراءات والصيغ والتراكيب؛ فاحتاجوا إلى ضبط معاني ألفاظه وفهم مرامي أساليبه، والبحث عن قواعد لضبط صيغه وتراكيبه.فقد وجد علماء اللغة أن الشعر هو الوعاء الحاوي لألفاظ اللغة ، والمختزن لأساليبها، والمفصح عن معانيها، فعادوا يتعرفون على صحيح اللغة ويفهمون الأساليب، ويستكشفون المعاني من خلال الشعر فكان عصب الدراسات والعلوم التى نشأت وصارت تعرف بكتب المعاني، وكتابها بأصحاب المعني، قال ابن الصلاح فى الإتقان ( ج1 ص 113 ) " وحيث رأيت فى كتب التفسير : قال أهل المعاني فالمراد به مصنفوا الكتب فى معاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش وابن الأنباري"

ومهما تعددت هذه العلوم اللغوية وأختلفت أسماؤهم، وغايتها، والجوانب التى تناولتها من نحو وصرف وتفسير ومعاني ومشكل وغريب ومجاز ولغات وقراءات، فان الطابع الذى يمع بينها هو أن مؤلفيها أعتمدوا على الشعر فى الإستشهاد والإحتجاج، فمثلاً علم النحو الذى هو ( مقاييس مستنبطة من إستقراء كلام العرب ) ( شرح الأشموني على ألفية بن مالك ج1 ص 5 )، أُوكل الى هذه المقاييس صون اللسان عن الخطأ فى تلاوة القرآن. فى حين أن كلام العرب شعراً ونثراً هو عمد النحاة فى هذه المقاييس والإحتجاج بها، ولذلك نرى مع محمد عيد " أن الظاهرة الواضحة فى كتب النحو العربى هى الإعتماد الأساسي على الشعر، إذ يكون وحده العنصر الغالب فى دراسات النحويين المتقدمين والمتأخرين من بين مصادر الإستشهاد " ( الرواية والإستشهاد باللغة ص 138). وكتاب سيبويه الذى اشتهر حتى أسموه ( قرآن النحو) ( مراتب النحويين لأبى طالب اللغوي ص 65)

يحتوى على أكثر من ألف بيتاً من الشعر، وهو مادفع العلماء الى جمع اللغة ورواية الشعروأخذوا يستشرحونه معنى اللفظ القرآنى الملتبس حيناً والغامض أحياناً، ويستعينون به على فهم تعبير أو أسلوب بياني، وصنفوا فى هذا الشأن الكثير من الكتب تحت أسماء ( معنى القرآن - مشكل القرآن - غريب القرآن - مجتز القرآن ) كلها تدور حول معنى الغريب فى القرآن من ألفاظ وتراكيب، هذه المصنفات تقوم فى الأغلب الأعم على الشعر حجة وشاهداً.

فهذا أبو عمرو ابن العلاء يقول عن نفسه " ماسمع حماد الرواية حرفاً إلا سمعته " ( طبقات النحويين واللغويين لأبوبكر الزبيدي - تحقيق محمد أبو الفضل ص ( ، وحماد قال عن نفسه " أروي سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة منها : بانت سعاد " ( الأغاني ج1 ص 87 )

والأصمعي يقول عن نفسه " أحفظستة عشر ألف أرجوزة " (تاريخ بغداد مجلد 1 ص 111)

واستشهد ابن جرير الطبري بألفين ومائة وخمسين بيتاً تقريباً فى مصنفه للتفسير

وقال أبو على عن أبو بكر الأنباري " وكان يحفظ فيما ذكر ثلاثمائة ألف بيت شاهداً فى القرآن ) ( طبقات الزبيدي ص 171 )

ولاشك فى أن هذه الأخبار لاتخلو من المبالغة ، إلا انها تصور بوضوح شديد كثرة مايروون ومايجمعون وتوظيف ذلك فى توضيح غموض القرآن الذى عانوا منه

ولم يكونوا فى هذا الشأن من الشعر يساون فيه بين القديم والحديث بالنسبة لهم، ولكنهم يقدمون الجاهلي ، ويبحثون عن القديم المحقق ماأستطاعوا الى ذلك سبيلا، قال الأصمعي " جلست الى ابى عمرو بن العلاء عشر حجج فلم أسمعه يحتج ببيت أسلامي" ( وفيات الأعيان ص 466)

وروى السيوطي عن أبو عمرو بن العلاء ( لقد حسن هذا الموّلد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته) يقول السيوطي" يعنى بذلك شعر جرير والفرزدق ، فجعله موّلداً بالإضافة الى شعر الجاهلية والمخضرمين ، وكان لايعد الشعر الا ماكان للمتقدمين.هذا هو مذهب أبى عمرو وأصحابه كالأصمعي وابن الأعرابي" ( المزهر ج2 ص 488 )

إذن قامت حركة ضبط وتقعيد اللغة فى القرن الثانى الهجري وأعتمدت على الشعر خاصة الجاهلي منه ، وبعد ذلك طبقت هذه القواعد على إعراب كلمات القرآن فيما بعد ، وهذا يقودنا الى تساؤلات أخرى عما حدث بعد ذلك ، نتولى استقرائها الحقيقة فى المقال المقبل، عن علاقة الشعر الجاهلى بشعراء الجاهلة وشعراء المسلمين، وعن علاقة المكتوب على قبة الصخرة بالقرآن،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق